في ذكرى الاستقلال اللبناني الثانية والسبعين، تنبه المحتفلون إلى أن فيروز المطربة المشهورة بلغت الحادية والثمانين. لقد ذهب البعض منهم إلى وضع صورتها على أعمدة هيكل الشمس ببعلبك الذي غنّت فيه للمرة الأُولى قبل ستين عاماً. أما الإذاعات والفضائيات فحفلت بأُغنياتها عن لبنان وعن الحب والشمس، وعن مكة والقدس وفلسطين. وقد بلغ من كثرة مناسبات فيروز هذه الأيام، أنها في رأي بعض الظرفاء تجاوزت مناسبات وأحاديث الاستقلال!
فيروز (يليها وديع الصافي) تُعنى في أغنياتها عنايةً خاصةً بلبنان. وصُوَر أغنياتها عنه (خصوصا في الستينيات والسبعينيات) أنه وطن المحبة والشمس والمجد والعلم والحضارة والتقدم والشباب المزدهر. وبالطبع كلُّ مطربي ومطربات لبنان، بل وسوريا وفلسطين وبعض المصريين، اهتموا بلبنان وبيروت والأرز والجبل والثلج والريح.. لكن فيروز لا تُضاهى في هذا المجال. ومن حسن حظّها أنّ زوجها عاصي الرحباني وأخاه منصور كانا شاعرين وملحّنين في الوقت نفسه. لذا فإنّ كلمات أغنياتها رائعة بالفعل، وهي تظلُّ مثيرةً للانتباه باعتبارها شعراً رائعاً، رغم جمال صوتها وملائكيته. وما زادت فترة الإنشاد للبنان وازدهاره عند فيروز على العشرين عاماً. ثم بدأت مرحلتا الحرب الأهلية في لبنان، والغزو الإسرائيلي المتكرر له. أمّا الجانب الآخر فهو الإشادة بصمود لبنان وشجاعة أبنائه، وأنه سيظل دائماً رغم كل شيء طاقة وردٍ وإكليل غار على جبين التاريخ.
إن هذه الصورة العذبة والماجدة للبنان، هي صورةٌ شعريةٌ، وعلاقتها بالواقع فيها الكثير من المشكلات. فعندما بدأت فيروز والصافي والأطرش وصباح، يغنون للبنان في الخمسينيات، كانت حربٌ أهليةٌ تشتعل فيه (1957-1959). وقد اتخذت لها عناوين المسيحية والإسلام، العروبة وحلف بغداد، والصراع بين الأميركان والسوفييت على المنطقة العربية. لكنّ الصورة استقرّت بين 1960 و1975 مع بدء رئاسة اللواء فؤاد شهاب، أول رئيس عسكري للبنان. كان مسيحياً متنوراً ورجل دولة على غير عادة العسكريين، وتحالف مع عبدالناصر فرضي عنه المسلمون اللبنانيون. ثم اضطربت الصورة وما تزال بعد وفاة ناصر، وإسراع إسرائيل لتخريب البلاد بذريعة استقرار المقاومة الفلسطينية فيه بعد خروجها من الأردن عام 1970. وما خرجت المقاومة التي تصارع عليها المسلمون مع المسيحيين حتى دخل الإسرائيليون وصولا إلى بيروت عام 1982 حيث أرغموا النواب على انتخاب بشير الجميل رئيساً للبنان. ومن وراء الإسرائيليين دخل العسكر السوري (1976 -1977)، ولم يخرج من لبنان إلاّ بعد اغتيال رفيق الحريري عام 2005.
احتفل لبنان يوم 22 نوفمبر 2016 بذكرى الاستقلال الثانية والسبعين، بيد أنّ هذه الذكرى ما جلبت معها غير القليل من الفرح والراحة. فمن الفرح القليل أنه أمكن قبل أقل من شهر انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، بعد فراغٍ رئاسي دام عامين ونصف العام. لكنْ ليس هذا فقط، فخلوُّ منصب الرئاسة، وهو يحدث للمرة الثالثة منذ دخول السوريين إلى لبنان، يعبّر عن أزمةٍ في النظام السياسي، لا تجد حلاًّ لها. فمنذ خروج السوريين سيطر «حزب الله» على مرافق الدولة ومؤسساتها، وهو يمنع ما لا يريد ويفرضَ ما يريد. وفي أوائل 2013 تدخل عسكرياً في سورية لدعم نظام الأسد رغم اعتراض معظم اللبنانيين، وبخاصةٍ أنه تسبب بمجيء مئات الآلاف من اللاجئين السوريين إلى لبنان. وكان الحزب في 2008، وبغرض إسقاط حكومة السنيورة الأولى، قد احتلّ بيروت، ثم عاد وأسقط الحكومة الأُولى لسعد الحريري عام 2011. ولبنان لا يعاني نظامُهُ السياسي من هيمنة الحزب وحسْب، بل ومن التفاقُم الطائفي، والفشل في إدارة الدولة والنظام، إلى درجة أنّ مجلس الوزراء ما استطاع حلَّ مشكلة النفايات طوال عام كامل!
سمعتُ نائباً ووزيراً سابقاً اشتهر بمعارضة مجيء عون للرئاسة، يردُّ على المتشائمين بحاضر لبنان ومستقبله: «أياً تكن الصعوبات والمخاطر، فنحن بالنهاية 4 ملايين نسمة. وهم يحتاجون إلى نظام سياسي وإدارة. وإن لم نظلّ نحاول الخروج من المأزق، فقد يصيبنا ما أصاب سورية والعراق. إن العرب لا يحتاجون المزيد من المقتولين واللاجئين».
لبنان فيروز هو حُلُمٌ مسيحيٌّ فرنسيٌّ بالأصل. لكنه أفاد المسلمين أيضاً. فإذا كان ما تحقّق من نجاحٍ متواضع لا يبرر بقاء النظام، فليكن الخوف من الأعظم هو المبرر.
رضوان السيد
صحيفة الشرق الأوسط