لا ينبغي النظر إلى القرار الذي اتخذه برلمان الاتحاد الأوروبي يوم الخميس 24 تشرين الأول/نوفمبر 2016 بتجميد مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي على انه خطوة خاصة بانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي فقط، وإنما ينبغي قراءة ذلك بحركة التعامل التاريخي الأوروبي مع الجمهورية التركية طوال قرن تقريباً، بل ومع الدولة العثمانية من قبل. فالأوروبيون يريدون تفصيل تركيا كما يريدونها هم، وليس كما هي مثل باقي الدول الأوروبية، ولسوء حظ أوروبا أن مخططاتها السرية والتي كانت تحتال فيها على الشعب التركي لم تعد تخفى على الشعب التركي، وأصبح الشعب هو من ينتخب حكومته بإرادته الحرة أولاً، ويختار الحكومة التي تدافع عن مصالحه داخليا وخارجيا معاً ثانياً، وأول من تشمله كلمة خارجيا هو الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، فالاتحاد الأوروبي أوقف الشعب التركي أكثر من نصف قرن وهو ينتظر الانضمام إلى اتحاده، وقد قطع مراحل طويلة من شروط دخوله في المرحلة السابقة بطريقة متعبة وأبطأ من السلحفاة.
بدأت فكرة الانضمام في بدايات الستينات من القرن الماضي بطلب الانضمام عام 1963، وانتظرت حتى عام 1999 حتى يصادق الاتحاد الأوروبي على الطلب التركي، وتسلمت تركيا شروط الانضمام في كل المجالات السياسية والقانونية والاقتصادية وحقوق الإنسان والمحاكم والقضاء وغيرها، ووضع جدول زمني لذلك، وانطلقت عملية التفاوض حول العضوية وتحقيق الشروط الأوروبية عام 2005، أي في عهد حكومة العدالة والتنمية الأولى، وحاولت شروط الاتحاد الأوروبي إحراج الحكومة التركية بفرض القوانين الاجتماعية الأوروبية على المجتمع التركي المسلم، واستطاعت حكومة العدالة والتنمية تجاوز تلك الصعاب بتفهم المجتمع التركي تلك الشروط، ومع ذلك تم تأخير الانضمام بالرغم من انضمام دول أوروبية أخرى طلبت الدخول بعد تركيا.
وقد حاولت الحكومة التركية الاستفادة من التفاوض مع الاتحاد الأوروبي حول اللاجئين السوريين والمهاجرين عبر البحر إلى أوروبا، فتوصلت مع الاتحاد الأوروبي إلى اتفاق في حزيران/يونيو 2016 وفيه شروط اعتبرت محرجة للحكومة التركية ولكنها كانت حاولت مقابلها رفع التأشيرة عن المواطنين الأتراك لدخول دول الاتحاد الأوروبي التي كان من المفترض تطبيقها بحدود عام 2010، وتمتع المواطنين الأتراك بدخول دول الاتحاد الأوروبي وفق اتفاقية الشنغن التي تتمتع بها شعوب الدول الأوروبية، بعد استيفاء الحكومة التركية شروط ذلك، ولكن الاتحاد الأوروبي لم ينفذ بنود ذلك الاتفاق بالرغم من تنفيذ تركيا ما يتوجب عليها منه، وقد بقيت الحكومة التركية تحذر الجانب الأوروبي بانها سوف توقف تعاونها بشأن المهاجرين إلى أوروبا ما لم يلتزم ما يتوجب عليه في ذلك الاتفاق دون تجاوب أوروبي صادق.
وأخيرا جاء انقلاب 15 تموز/يوليو 2016 الدموي الذي قتل المئات وجرح الآلاف من الشعب التركي، وفي ظل حاجة الشعب التركي وحكومته إلى التأييد الخارجي وبالأخص الأوروبي والغربي بحكم دفاعه عن الدول والحكومات الديمقراطية، صدم الشعب التركي بالموقف الأمريكي والأوروبي، وانكشفت المواقف الأوروبية الحزينة على فشل الانقلاب، وأظهرت مدن أوروبية أخرى كراهية واضحة وصريحة نحو الشعب التركي ورئيسه أردوغان، حتى أن الحكومة الألمانية منعت احتفالاً للجالية التركية بفشل الانقلاب، بل أظهرت العواصم الأوروبية مواقف مريبة بدفاعها عن حقوق الانقلابيين في الاعتقال أو المحاكمة، وكأن القتلى المدنيين من الشعب التركي الذين سحلتهم دبابات الانقلابيين لا تعني الحكومات الأوروبية، أو ليست لهم حقوق إنسان، أو لا يحق للحكومة التركية أن تدافع عن حقوقهم وتحقق العدالة بمحاكمة القتلة والانقلابيين، فكان الموقف الأوروبي والأمريكي من الانقلاب المسمار الأخير في نعش مسيرة الثقة بين الشعب التركي والغرب.
وعلى الصعيد الرسمي كانت الشبهات على الموقف الأوروبي الداعم للانقلاب تقودها الأدلة والتحقيقات مع الانقلابيين، وليس التكهنات ولا الكراهية، فكما أثبتت تحركات قاعدة إنجيرلك تورط بعض الجنرالات الأمريكيين بالتعاون مع الانقلابيين ليلة الانقلاب، فقد أثبتت التحقيقات أن كثيرا من الضباط والجنود الأتراك الذين يعملون في عاصمة حلف شمال الأطلسي الناتو في بروكسل لهم صلة بالانقلابيين، بدليل طرد وزارة الدفاع التركية المئات من موظفيها العاملين ضمن بعثات حلف الناتو، والموجودين في عدة عواصم حول العالم، في سياق عملية التطهير التي أعقبت محاولة الانقلاب الفاشلة في تموز/يوليو من هذا العام، وذلك إما بسبب ثبوت صلات لهم بالانقلاب، أو ارتباطهم بجماعة فتح الله غولن الانقلابية، أو بسبب رفض الأوامر العسكرية بالعودة إلى مواقع عملهم في تركيا، وهذا الرفض دليل على التورط مع الانقلابيين أيضاً، أو تعاون غير مبرر مع الأوروبيين المعادين لتركيا.
فالبرقيات التي أرسلت إلى 149 مبعوثا عسكريا تركياً يخدمون ضمن مراكز الناتو في ألمانيا، وبلجيكا، وهولندا، وبريطانيا، تدعوهم للعودة إلى تركيا في غضون 3 أيام، بتاريخ 27 أيلول/سبتمبر الماضي بعضها لم ينفذ، ولذا قالت مصادر تركية مسؤولة في الناتو، إنه قد تم طرد أغلب هؤلاء المنذرين من الخدمة، قبل أن يتم اعتقالهم، وقد وصل عددهم 400 شخص، وأن من بين المبعوثين العسكريين المفصولين 41 شخصا كانوا يعملون ضمن البعثة التركية في مقر حلف الناتو الرئيسي في العاصمة البلجيكية بروكسل، حيث لم يتبق في تلك البعثة سوى 9 أعضاء من أصل 50، وهذا ما أكده مسؤول في حلف الناتو بقوله: إن أنقرة أبلغت الحلف بالتغييرات التي أجرتها على موظفيها في البعثات ضمن أوروبا والولايات المتحدة، وإن القضية بحثت على مستوى رفيع بين الحلف والمسؤولين الأتراك.
وقد رفضت الحكومة التركية منح أولئك الموفدين الأتراك لدى الناتو والذين يرفضون العودة إلى أماكن عملهم السابقة في تركيا حق اللجوء السياسي في أوروبا، لأنهم مطلوبون للقضاء التركي، والمتوقع أن تلتزم الدول الأوروبية بالقوانين المرعية بهذا الشأن، فالأتراك يتوقعون من حلفائهم أن يدعموهم في هذا الأمر، وليس دعم مدبري الانقلاب المتورطين به، ولا دعم الأحزاب الإرهابية الذين يسعون إلى تقسيم تركيا، مثل حزب العمال الكردستاني.
هذه الإجراءات التركية وإن كانت موجهة للأتراك الموفدين للعمل في الناتو، ولكنها أيضا تثير شبهات على اعتماد تنظيم فتح الله غولن السيطرة على مقرات الدولة التركية في أوروبا واعتبارها أحد أوكاره الدولية، وبالأخص في حلف الناتو العسكري تحديدا، أي انه كان يركز هيمنته على مراكز القوى في الغرب، سواء في أمريكا أو في أوروبا، وفي ذلك شبهات كبيرة على الناتو وتعاونه مع تنظيم غولن، وهذا يفتح باب التساؤل عن أسباب تجميد مفاوضات تركيا من قبل برلمان الاتحاد الأوروبي في هذه الأجواء، التي تواجه بها تركيا ذيول الانقلابيين داخليا وخارجيا، بما فيها المطالبة بتسليم زعيم الانقلاب فتح الله غولن المقيم في أمريكا ويجد فيها الحماية الأمنية، ولذا يمكن اعتبار الرسالة البرلمانية الأوروبية نحو تركيا بوقف مفاوضات الانضمام معها هي رسالة تأييد للانقلابيين أولاً، وللمعارضة غير الوطنية المتمثلة بحزب الشعوب الديمقراطي، الذي يتحجج الأوروبيون بان الحكومة التركية تتخذ إجراءات غير ديمقراطية معه، بينما هم أي زعماء ونواب حزب الشعوب الديمقراطي يعلنون تأييدهم للعمليات الإرهابية التي تقتل المدنيين الأتراك في عمليات تفجيرية في كل المدن التركية.
إن قرار البرلمان الأوروبي ليس ملزما للمجلس الأوروبي، فهو قرار لا علاقة له بالاتحاد الأوروبي كمجلس تنفيذي، ولذلك يمكن النظر إليه على انه محاولة إرضاء من نواب البرلمان الأوروبي لمنتخبيهم، فهو ليس محاكمة للحكومة التركية بقدر ما هو انحياز برلماني أوروبي إلى جانب من يستهدفون تركيا، فالقرار تأييد لمواقف الكيان الموازي الذي يستغل لوبياته داخل أوروبا، وكذلك لحزب العمال الكردستاني، وهذا بالتأكيد سوف يجد عدم رضا من الأتراك، وبالأخص من الحكومة التركية التي ترفض وقوف دول الاتحاد الأوروبي إلى جانب الجهات التي تستهدف تركيا، فموقف الرئيس التركي أردوغان كان واضحا قبل أيام بأن أمر المفاوضات لا يؤثر كثيرا على تركيا، والعديد من المسؤولين الأوروبيين أكدوا أن أوروبا أكثر خسارة من تركيا، بل إن الرئيس أردوغان قد هدد الاتحاد الأوروبي في حالة تبنيه لتجميد المفاوضات مع تركيا على عرض هذه المفاوضات على استفتاء شعبي في تركيا خلال شهرين لقطع مشروع الانضمام من أصله، وهذا ما جعل المجلس الأوروبي يرفض الوقف أو التجميد.
إن السبب الرئيسي وراء قرار البرلمان الأوروبي هو وجود رغبة لدى بعض الدول الأوروبية تدفع الاتحاد لاتخاذ هذه الإجراءات، وفي مقدمتها فرنسا وألمانيا، فالرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي لم يخف مشاعره العدائية ضد تركيا، وقال في حينه:» إن أوروبا لن تقبل انضمام دولة من سبعين مليوناً من المسلمين»، وهذا تأكيد لموقف بابا الفاتيكان السابق، بأن الاتحاد الأوروبي «بيت مسيحي خالص»، وقرار التجميد جاء بطلب من الحكومة النمساوية وهو بطريقة ما استجابة لسياسة أو ضغوط المستشارة الألمانية انغيلا ميركل التي ترى أن أفضل وضع للعلاقات الأوروبية التركية هو استمرار المفاوضات معها دون الوصول إلى ضمها للاتحاد، فهي تريد في وقت واحد: بقاء تركيا مرتبطة بأوروبا وغير بعيدة عنها، لأسباب تخص الأمن والاقتصاد الأوروبي، وهذا ما يفسر رفض قرار المجلس الأوروبي لمثل هذا القرار قبل عشرة أيام، بينما وافق عليه البرلمان الأوروبي، فالاتحاد الأوروبي يخشى أن يفقد تقارب تركيا معه.
محمد زاهد غول
صحيفة القدس العربي