أخطأت توقعاتي بنجاح هيلاري كلينتون في انتخابات الرئاسة الأميركية، مثل توقعات كثيرة اعتبرت النتيجة محسومة مسبقاً، صدر كثير منها من طبيعة شخصية المرشح المنافس دونالد ترامب الذي بدا “جاهلاً” و”متعصباً”، وليس مؤهلاً لأن يكون رئيساً. وكان جزء مهم من الجمهوريين يرى ذلك، وليس فقط مؤيدو كلينتون أو كبار المحللين، والصحف التي تعبّر عن الطغم المالية. بالتالي، فشلت توقعاتنا التي اعتبرت أن “مرشحة وول ستريت” سوف تنجح بالتأكيد. لكن المفاجأة، أو ما اعتبر مفاجأةً نتيجة تحليلاتٍ خاطئة، تفرض أن نعيد دراسة الوضع، لأن النتيجة عبّرت عن وضع “سوريالي” تعيشه أميركا، وضع يدفع إلى نجاح اليمين “المتطرّف”، و”الجهل السياسي”، و”الانعزال”، وربما العدوانية. ولكن، أيضاً، نجاح رئيس يتناقض مع مجمل السياسات التي جرى اتباعها بعد الأزمة المالية، وحتى منذ انطلاق العولمة. وربما يكون فهم ما جرى ضرورياً من أجل فهم طبيعة التناقضات الداخلية التي باتت تتحكم في أميركا.
ما انطلقتُ منه في توقعي بنجاح هيلاري كان يستند إلى مسألتين، الأولى: الأزمة الاقتصادية الأميركية، والتراكم المالي الذي يفرض نشوء فقاعاتٍ في قطاعاتٍ اقتصاديةٍ، يجري تكثيف التوظيف فيها سرعان ما تنفجر لتؤدي إلى انهيار مالي كبير. وقد فرض الانهيار الذي حدث سنة 2008 إلى تراكم كبير في مديونية الدولة، لتصبح عاجزةً عن أن “تتوسّع” عسكرياً، وأن تلملم وضعها، بما يجعلها قادرةً على تأخير انفجار الفقاعة، ومن ثم لملمة نتائجها. كان هذا الأمر يفرض “انكفاءً” أميركياً، وإعادة تموضعها العالمي، و”عقلانية” في السياسة، لكيلا تتورّط في حروب كبيرة، ومن ثم تأسيس تحالفاتٍ تدعم وضعها في مواجهة الصين التي باتت تشكّل خطراً عليها. الأزمة هي التي جاءت بباراك أوباما، ويفرض استمرارها استمرار سياساته، كما ظننت. بالتالي، رجحت نجاح هيلاري. وتتعلق المسألة الثانية بكسر تابوهات أميركية، بدأت برئيس “أسود”، وكنت أظن أن هذا الكسر سيفرض الإتيان برئيسٍ امرأة. بالتالي، كنت أعتقد أن ميل الطغم المالية الذي يتمثل في تكسير البنية التقليدية لأميركا، وتعميم “التحرّر”، ربما التحرّر من كل شيء، يمكن أن يتواصل من دون ردة فعل عكسية.
إذن، اعتمد التحليل على أن الاحتكارات المسيطرة على الاقتصاد الأميركي، خصوصاً هنا الطغم المالية (أصحاب البنوك والمؤسسات المالية الضخمة)، تريد استمرار السياسات التي تقرّرت بعد الأزمة، والتي مثلها أوباما، وهيلاري هي الاستمرارية هنا. بمعنى أن وضع أميركا ما بعد الأزمة، ومع استمرار الأزمة، جعل الاحتكارات تختار سياسةً انكفائيةً حذرة، تتراجع عن الميل إلى الهيمنة العالمية الشاملة التي ظهرت بعيد انهيار الاتحاد السوفيتي، وخصوصاً في حقبة بوش الابن. بالتالي، إذا كانت الاحتكارات هي المتحكّم في النظام، يكون السؤال: هل كان نجاح ترامب التعبير عن التغيير في سياسة تلك الاحتكارات؟ أو هل كانت السياسات التي اتبعها أوباما خاطئة. لهذا، أرادت العودة إلى شكلٍ ما من أشكال سياسة “المحافظين الجدد”؟ بمعنى أن الاحتكارات قد غيّرت من سياساتها؟
الملفت أن مجمل الصحف الكبيرة التي تعبّر عن هذه الاحتكارات، ومؤسساتٍ عديدة، كانت تدعم هيلاري وليس ترامب، فهي “صديقة” وول ستريت. كما أن كل التحليلات تفيد بأن ترامب آتٍ “من خارج المؤسسة” التي تمثّل تلك الاحتكارات، بكل اختلافاتها. وهذه مسألة تظهر واضحةً في سياسات ترامب العديدة الداخلية، التي تتناقض مع مجمل سياسة مرحلة أوباما. لكن، يبدو أن الأزمة أتت بردٍّ مختلف. فالاقتصاد الأميركي ما زال مأزوماً، ومعرّضاً لانهيارٍ جديد. وقد فرضت الأزمة تراجع وضع الفئات الشعبية، وأصبحت اللامساواة في مستوىً هائل، ووضع الاقتصاد هش، بعد أن بات النشاط المالي هو المهيمن فيه، وبعد “رحيل” الصناعات إلى بلدان تتسم برخص اليد العاملة.
هل نحن إزاء عولمةٍ مضادة، أي انغلاق قومي؟ أي هل أن العولمة قد أوجدت نقيضها؟ هذا ما يحتاج إلى بحث، لكن ما يظهر واضحاً أن الأزمة تحفر عميقاً.
سلامة كيلة
صحيفة العربي الجديد