بعد أكثر من سنتين ونصف من الجدل حول شرعية هيئة الحشد الشعبي، وبالتالي شرعية الميليشيات التي استظلت بهذه الهيئة، مرر البرلمان العراقي قانونا «إشكاليا» لشرعنة هذه الهيئة، من خلال موافقة شيعية تامة، ورفض سني شبه كامل، وانقسام كردي!
وبعيدا عن الضربة الشديدة التي وجهها القانون لمسارات المصالحة/ التسوية الوطنية التي كانت مدار الحديث في الأسابيع الماضية، فقد جاء في توقيت يثير الكثير من علامات الاستفهام. سواء فيما يتعلق بالوضع العسكري، المتعلق بمعركة الموصل البطيئة، أو فيما يتعلق بمعركة تلعفر! أو ما يتعلق بالوضع السياسي والصراع الشيعي الشيعي الذي فجرته وثيقة التسوية التي تقدم بها التحالف الوطني! او فيما يتعلق بالتكهنات المتعلقة بموقف السيد السيستاني المحتمل من الحشد الشعبي بعد الموصل، خاصة بعد استخدام فتواه بشأن «الجهاد الكفائي» من أجل «شرعنة» المليشيات القائمة!
الأمر الأهم فيما يتعلق بهذا القانون، هو النص المهلهل الذي أريد له ان يتعاطى مع مسألة معقدة تتعلق بتشكيل قوى عسكرية ذات طبيعة عقائدية يصل تعدادها إلى أكثر من 100 ألف مقاتل، مع تسليح ثقيل، في ظل الانقسام المجتمعي الحاد، والصراع السياسي المتفاقم! فالقراءة التحليلية للقانون تكشف عن ثغرات وتناقضات وعدم تحديد شديد سيتم تأويلها لاحقا تبعا لعلاقات القوة الشيعية الشيعية بشكل أساسي.
فالمادة 1 اولا من القانون نصت على أن تكون هيئة الحشد الشعبي تشكيلا يتمتع بالشخصية المعنوية ويعد جزءا من القوات المسلحة، ويرتبط بالقائد العام. من دون ان نعرف لماذا اعتمد مصطلح «الهيئة» إذا ما كان هذا التشكيل جزءا من القوات المسلحة العراقية؟ ثم لماذا وصفها بأنها تتمتع بشخصية معنوية؟ خاصة وان مصطلح الشخصية المعنوية يفترض أساسا أن هذه الجهة تتمتع بشخصية قانونية مستقلة. وكيف يمكن حل التناقض بين كونها «هيئة ذات شخصية معنوية» وبين كونها جزءا من «القوات المسلحة»؟ ثم أن الحديث عن ارتباطها بالقائد العام للقوات المسلحة يعني عمليا ان لا علاقة مباشرة بينها وبين «القوات المسلحة» فكيف تكون جزءا منها! فضلا عن ذلك فان القانون يعطي للقائد العام سلطة مباشرة على قوة عسكرية وهذا غير معمول به في اي نظام ديمقراطي في العالم، بل هو واحد من مظاهر الانظمة الشمولية! ثم كيف يمكن ان يمنح لمدني قيادة عسكرية مباشرة بهذه الطريقة، بعيدا عن القيادة العامة للقوات المسلحة وبعيدا عن رئاسة الأركان؟ والأهم هنا اننا نتحدث مرة اخرى عن سلطة عسكرية مطلقة للقائد العام على جهة عسكرية! ونتذكر جميعا ان واحدا من أبرز الاعتراضات على المالكي كانت في تشكيله مكتبا للقائد العام احتكر من خلاله القرار العسكري، وهو ما دفع السيد العبادي الى الاعلان بعيد تسلمه منصبه الى الغاء هذا المكتب! فكيف يتم الاعتراض على مكتب ثم يسمح للقائد العام ان يحتكر السلطة على قوى عسكرية ذات طبيعة اشكالية فيما يتعلق ببنيتها وتوجهاتها وارتباطاتها؟
الفقرة 1/ أولا/ 1 من القانون نصت على أن يكون الحشد الشعبي «تشكيلا عسكريا مستقلا وجزءا من القوات المسلحة». وهذا يعني أن اصطلاح الشخصية المعنوية لم يكن خطأ وإنما كان مقصودا، من هنا النص على استقلالية الحشد! وواضح ان عبارة «ويكون جزءا من القوات المسلحة» الغرض منه التحايل فقط على المادة 9/ ب من الدستور العراقي التي حظرت تشكيل اية ميليشيات خارج إطار القوات المسلحة.
الفقرة 1/ أولا/ ثانيا تحدثت عن تشكيل يتألف من قيادة وهيئة أركان وصنوف وألوية مقاتلة. وهذا يعني ان هذا التشكيل ليس جزءا من القوات المسلحة، بدليل الحديث قيادة وهيئة أركان خاصة به، بل عن صنوف داخله! من دون أن يحدد القانون طبيعة هذه القيادة، وعلاقتها مع القائد العام، وعلاقتها بالقيادة العامة للقوات المسلحة، ومن دون تحديد طبيعة العلاقة بين هيئة الأركان الخاصة به وهيئة الأركان التابعة الأركان التابعة للقوات المسلحة! ولكن السياق يكشف أن الحديث يتم عن تشكيل عسكري مواز للقوات المسلحة وليس جزءا منها، وهو تشكيل له قيادة مستقلة، وهيئة أركان مستقلة. أما الحديث عن الصنوف فهو يؤكد هذه الحقيقة، وأن هذه الصنوف التابعة للحشد الشعبي لا علاقة لها بالصنوف التي يتشكل منها القوات المسلحة العراقية. كما ان الحديث بهذا الاطلاق عن «صنوف» يعني أن ثمة إرادة صريحة بأن يكون لهذه الميليشيات أسلحة ثقيلة، وليست مجرد قوات مشاة خفيفة! وبمراجعة المسودات الخاصة بقانون الحرس الوطني، كانت هناك دائما إشارة إلى أنها لن تحصل على اسلحة ثقيلة، وأن تسليحها أقل من تسليح الجيش! ولكن القانون أغفل الإشارة إلى هذه المسألة تماما.
الفقرتان 3 و4 من المادة 1 تكشفان بوضوح عن النسق المضمر الذي يكتنف هذا القانون! فلو كان الحشد الشعبي جزءا من القوات المسلحة، ما كانت هناك حاجة من الأصل للإشارة إلى أن هذه القوات تخضع للقوانين العسكرية النافذة، وكان يمكن الاكتفاء بأن هذه القوات مستثناة من شرطي العمر والشهادة. كما لم تكن هناك حاجة للإشارة إلى ان هذه القوات ستعمل وفق السياقات العسكرية من تراتبية ورواتب ومخصصات وعموم الحقوق والواجبات، لأن هذا سيكون تحصيل حاصل ما دامت هذه القوات جزءا من القوات المسلحة.
الفقرة خامسا من المادة 1 تبقى الأكثر إشكالية! فالدستور العراقي في المادة التاسعة، أكد على أن القوات المسلحة «لا تتدخل بالشؤون السياسية، ولا دور لها في تداول السلطة»، وانه لا يجوز لأفراد هذه القوات الترشيح في انتخاباتٍ لإشغال مراكز سياسية، ولا يجوز لهم القيام بحملات انتخابية لصالح مرشحين فيها. وهذا الشرط الدستوري اضطر الأمر الديواني الذي أصدره السيد العبادي في حزيران/ يونيو 2015 إلى ايراد فقرة تتعلق بهذه المسألة. فقد قرر القانون ان «يتم فك ارتباط منتسبي هيئة الحشد الشعبي الذين ينضمون الى هذا التشكيل عن كافة الاطر السياسية والحزبية والاجتماعية ولا يسمح بالعمل السياسي في صفوفه». ولكن بمراجعة سريعة الى طبيعة الميليشيات العاملة تحت مسمى «الحشد الشعبي»، على الاقل منذ صدور هذا الامر الديواني، تكشف أن لا شيء تغير على الارض فيما يتعلق بطبيعة العلاقة العضوية بين هذه الميليشيات ومرجعياتها الدينية او السياسية او الحزبية على حد سواء. وبالتالي لا ضمانة بان هذا الشرط سيكون قابلا للتطبيق باي حال من الاحوال. إذ لا يمكن تخيل ان تقبل هذه الميليشيات أن تتخلى عن أذرعها العسكرية بهذه البساطة، وبالتالي نحن نعيد إنتاج الإشكالية نفسها التي حكمت القوات العسكرية والامنيــــة في مرحلة ما بعد 2003.
عندما تم إدماج عدد كبير من الأفراد في هذه القوات على الرغم من ارتباطاتهم السياسية والحزبية، وهو ما حول هذه القوات إلى قوات عسكرية وامنية مسيسة وغير مهنية، وجعلها اداة من ادوات الصراع السياسي في العراق.
تحدث القانون أيضا عن «التوازن» الذي اشترطته المادة التاسعة من الدستور وهي مادة لم ترد في الامر الديواني! وهو الشرط الذي لم يتم تحقيقه حتى اللحظة فيما يتعلق بالقوات المسلحة العراقية، أو القوات الأمنية العراقية! وبالتالي لا ضمانة على إمكانية تحقق هذا التوازن في الحشد الشعبي! أما الفقرة رابعا من المادة ذاتها فتقرر ان انتشار قوات الحشد الشعبي وتوزيعها هو من صلاحيات القائد العام للقوات المسلحة حصرا! وكان يفترض ان مجرد أن هذه القوات هي جزء من القوات المسلحة، فهذا يعني أنه ينطبق عليها ما ينطبق على القوات المسلحة، بوصفها سلطة حصرية للسلطات الاتحادية، وبأن انتشارها وتوزيعها يقع ضمن صلاحيات السلطة الاتحادية حصرا! ومن ثم فهي تخضع لقرارات القائد العام للقوات المسلحة حصرا أيضا!
وقد قررت المادة 2 أن تعيين «قائد الفرقة» يتم بموافقة مجلس النواب كما اشترط ذلك الدستور العراقي، من دون ان تحدد المادة، أو القانون ككل، بنية هذه القوات، أو عددها! وبالتالي هل المقصود هنا ان الحشد الشعبي نفسه يشكل فرقة واحدة! وإذا كان الامر ليس كذلك، أي أن الحشد الشعبي سيشكل أكثر من فرقة عسكرية، فمن سيعين قائد الحشد الشعبي ككل! وهل سيخضع تعيينه لموافقة مجلس النواب ام لا؟ القانون لا يجيب عن هذه الأسئلة!
أخيرا تقرر المادة 3 من القانون سريان احكام هذا القانون على منتسبي تشكيل الحشد الشعبي بأثر رجعي اعتبارا من تاريخ قرار مجلس الوزراء في حزيران/ يونيو 2015. من دون ان ينتبه واضعو القانون إلى ان القانون نفسه تحدث عن بنية يفترض أنها مختلفة تماما عن بنية الحشد الشعبي التي كانت قائمة حينها! فالقانون أشار إلى أن تشكيل الحشد الشعبي الجديد يتألف من الجهات التي ستقبل بفك ارتباطها بكافة الاطر السياسية والحزبية والاجتماعية، ووضع سقفا زمنيا لفك الارتباط مدته ثلاثة أشهر! فكيف يمكن حل التناقض الصارخ بين المطلبين؟
إن هذه الثغرات والتناقضات لم تكن نتيجة «الاستعجال»، وإنما كان امرا مقصودا، سبق ان واجهناه عند كتابة الدستور العراقي، الغرض منه ان تكون سلطة التأويل، أداة بيد القابض على السلطة لتنفيذ إرادته الأحادية.
يحيى الكبيسي
صحيفة القدس العربي