ومن أولويات شروط مواجهة التحديات بنجاح، في مثل حالتنا السورية المشخصة: أولاً، العودة الى الجذور الأصيلة والاستراتيجية الثابتة التي انطلقت منها الانتفاضة الثورية منذ البدايات، وهي إرادة الخلاص من الاستبداد بإسقاطه، وانتزاع الحرية والكرامة والمضي في عملية التغيير الديمقراطي، وصولا إلى سورية منشودة التعدّدية الديموقراطية التشاركية لكل مكوناتها القومية والدينية والمذهبية والاجتماعية، وإلى جانب التسليم بالطابع المركب للمجتمع السوري، وليس البسيط الذي نفته أنظمة الاستبداد وحكوماته عبر الإقصاء والتغييب والإنكار اعتماد مبدأ (واحد واحد الشعب السوري واحد) الذي التزمت به جموع المنتفضين والحراك الشبابي في كل المناطق السورية على قاعدة (الاتحاد في إطار التنوع)، وتمتع الجميع بالحقوق المتساوية، القومية منها والاجتماعية، بما في ذلك قبول إرادة الكرد، كقومية ثانية في تقرير مصيره السياسي والإداري، واحترام هويات الأقوام الأخرى، ضمن حدود الوطن الواحد، والعيش المشترك في ظل الدستور الضامن، والقوانين النافذة. ولا حاجة إلى القول إن الثوابت أعلاه لا تنفي مختلف التكتيكات المرنة خلال الأداء السياسي، وتقسيم العمل النضالي إلى مراحل وخطوات متلاحقة.
ثانياً، عدم الخلط، عن خطأ أو سابق إصرار، بين الثورة من جانب والمعارضة من الجانب
الآخر، ففي الأول والبداية كانت الانتفاضة التي تحولت، بعد اكتمال العوامل، وأهمها التلاقح بين الحراك الوطني الثوري وتشكيلات الجيش الحر إلى الثورة، ومن ثم ظهرت المعارضة باسم الداخل والخارج، وهي لم تنشأ في ظروف طبيعية، ولم تخرج من رحم الثورة، ولم تحصل على تخويلها، وبالتالي، لم تمثلها فكراً وسياسةً وخلقاً وأداءً، وإذا اعتبرنا، وبموضوعية، أن الذين أشعلوا الانتفاضة سلمياً وعفوية، هم الشباب عبر تنسيقياتهم، واحتضنتهم جماهير المدن والريف، بل سارت من ورائهم، وتبنت شعاراتهم في تظاهراتٍ احتجاجية مليونية، وبمئات الآلاف، ومن ثم اكتملت شروط الثورة، كما ذكرنا، بتلاحم هؤلاء مع طلائع العسكريين الملتحقين بصفوف الشعب، إلى أن تخلصت الأحزاب التقليدية من الصدمة، وهي التي لم تكن في وارد إشعال ثورة أصلاً، لا في برامجها، ولا في مخيلة مسؤوليها الذين توارثوا الفشل، جيلا بعد جيل، واستسلموا لنظام الاستبداد. نقول عمدت الأيديولوجية منها، وخصوصا الإسلامية، إلى مصادرة الحراك والسيطرة على مفاصل العمل، مستغلةً نقص تجربة الشباب ونزاهتهم وعوز الجيش الحر وتواطؤ أشخاص محسوبين على الفكر القومي واليسار، واستثمار المال الخليجي والجغرافيا التركية، وتبوأت مكانةً لم تكن لها، إلى درجة الادعاء بتمثيل الثورة التي تتناقض مبادئها مع توجهاتها الحزبية الإسلامية السياسية، فكانت الضربة الأولى لكيان الثورة في الصميم، والهدية الأثمن لنظام الأسد، والسبب الأبرز في التراجع، والتمهيد لصعود موجة الثورة المضادة على الصعد كافة.
ثالثاً، بدأنا نتابع، أخيراً، على مواقع التواصل الاجتماعي موجة تلو أخرى من مسميات (تجمعات، لجان، هيئات، مجالس ..إلخ) أو مقالاتٍ منشورة، يحمل بعضها أسماء نافذين ومسؤولين في “الائتلاف”، وسابقاً في المجلس الوطني السوري. ويلاحظ التشابه بين مضامين معظم الأطروحات، خصوصا في تجاهل الثورة وأهدافها ومسلماتها وثوابتها وتراثها، واعتبار المعارضة ممثلة عن الثورة، ولو بصورة غير مباشرة، والتركيز الأساسي على مهمة إصلاح “الائتلاف” من الداخل، وليس تغييره. وبين هؤلاء هواة تصدّر البيانات الرنانة، على الرغم من تلاعبهم بتيارات كانت راغبة في التغيير، وإجهاضهم محاولات إنقاذ عديدة، وبينهم من يعمل على تنفيس الاحتقانات، وقطع الطريق على المشاريع الجذرية، عبر المقالات المتلاعبة بالمصطلحات والعناوين، كما أن هناك، وهم كثيرون، من يرغب في الحلول محل الطواقم الدائمة في مؤسسات “الائتلاف”.
تبدأ الطريق إلى إنقاذ الثورة وحل الأزمة الوطنية وعدم الاستسلام هو الاعتراف بحقائق
موضوعية على الأرض، أولها حصول انتكاسة عميقة للثورة، وثانيها مسؤولية المعارضة التي زعمت التمثيل الشرعي الوحيد، أي المجلس الوطني و”الائتلاف”، عن كل الإخفاقات، وثالثها تخاذل النظام العربي الرسمي، ومن كانوا أصدقاء من قريب وبعيد، ولاسيما منهم منهم الداعمون لأسباب مصلحية وسياسية وآيديولوجية وبعد ذلك قيام البقية الباقية من تشكيلات الجيش الحر والثوار والحراك الوطني العام ونشطاء الشباب وحركات المجتمع المدني والكتلة المستقلة الوطنية من جميع مكونات الشعب السوري بالتواصل والتنسيق، من أجل التوصل إلى تشكيل لجنة تحضيرية، معبرة عن التعدّدية المكوناتية والسياسية، لتقوم بمهمة عقد مؤتمر وطني سوري جامع، لمراجعة الماضي وصياغة البرنامج السياسي، وانتخاب مجلس سياسي– عسكري، للنهوض بالمشروع الوطني الديمقراطي، ومواجهة تحديات السلم والحرب، وإعادة بناء قوى الثورة وهيكلتها، تحسبا للمراحل المقبلة، وبنفس طويل من دون تسرّع.