منذ سنوات طويلة، وعندما كنت أدرس مادة الفلسفة، كان أساتذتي يعلمونني مع زملائي أن هناك نوعين من الأساطير: الملموسة أي التي نراها مجسدة أمامنا أو نعايشها أو ندرك وجودها عبر دلالات حسية كالسمع وغيره من الحواس، وغير الملموسة التي قد نشعر بها أو نعبر عن الإيمان بها ولكن ليس لها وجود ملموس مباشر أو مادي. وأزعم هنا أن فيديل كاسترو كان آخر الأساطير الملموسة في عالمنا، ليس فقط لأن شعبيته تخطت حدود بلده، بل وحدود أميركا اللاتينية، لتنتشر عبر قارات العالم، وبخاصة في بقية أرجاء ما يعرف بـ «العالم الثالث»، ولكن أيضاً لأن كاسترو صمد أمام ضغوط كثيرة متصاعدة أحياناً ومتنوعة أحياناً أخرى وخانقة أحياناً ثالثة على مدار أكثر من ستة عقود من النضال والثورة ثم قيادة الدولة في كوبا، منذ بداية نضاله السياسي وحتى اعتزاله العمل السياسي في مطلع عام 2008، وتحول بلاده، تلك الجزيرة الصغيرة في الكاريبي، إلى حديث العالم بأسره ورقم صعب في معادلة العلاقات السياسية والاقتصادية الدولية، ونموذج في ما يتعلق بالإنجازات التي حققتها في الكثير من الميادين، ليس فقط بالنسبة إلى بقية بلدان اميركا اللاتينية أو العالم الثالث، ولكن أيضاً بالنسبة إلى بلدان تعرف بالبلدان المتقدمة أو العالم الأول. ولا يعني ما تقدم القفز لإصدار أحكام قطعية الدلالة إيجابية أو سلبية عن الإرث الذي تركه فيديل كاسترو محلياً أو إقليمياً أو دولياً، كما لا يعني التعجل في التقييم والوصول إلى استنتاجات مستخلصة من فرضيات قد لا يكون تم التحقق منها على النحو الموضوعي الأمثل، أو الانحياز إلى هذا الطرف أو ذاك في تقدير قيمة ما قدمه الزعيم الكوبي الراحل على مدار مشواره السياسي الطويل. إلا أن المؤكد أن العالم بعد اعتزال كاسترو السياسة في عام 2008، ثم بعد وفاته، لن يكون مثل العالم الذي بدأ فيه كاسترو رحلة نضاله السياسي في كوبا منذ مطلع خمسينات القرن العشرين.
هناك مراقبون لا يرون في حكم كاسترو سوى الاستبداد، وانتهاك حقوق الإنسان. إلا أنه يتعين أيضاً النظر إلى الصورة الأشمل والأعم. وهنا نجد حقائق لا يمكننا تجاهلها عند تقييم إرث فيديل كاسترو، وسنكتفي هنا بتناول ثلاثة منها. أولى هذه الحقائق أن كاسترو اتصف بأمر مهم ميَّزه عن الكثير من معاصريه من قادة بلدان في العالم الثالث، وهو أنه لم يكن أبداً «ظاهرة صوتية»، أي لم يكتفِ بالشعارات البراقة والعبارات الطنانة، في ما يسمى «نضال الميكروفونات»، وإنما اتسم بوضوح الرؤية، وثابَر ليعكس الشعارات التي تبنَّاها في شكل سياسات محددة وإستراتيجيات وبرامج عمل وخطط ما بين المدى القصير والمتوسط والطويل، في شكل أكسبه المنهجية والصدقية والاتساق مع الذات، والقدرة على التنبؤ وحسن إدارة أزماته ومعاركه على الصعد الوطنية والإقليمية والدولية لخدمة أهدافه. فقد تمسك كاسترو خلال نضاله السياسي وحكمه بما اعتبرها ثوابت متسقة مع قناعاته الأيديولوجية والعقائدية، وإن عدَّل أحياناً في التكتيكات وانحنى أحياناً أخرى للرياح العاصفة ولكن في شكل موقت لا يلبث أن يعود بعده إلى المسار الذي حدده سلفاً. ومن تلك المواقف المواجهة الناجمة عن أزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا في عام 1962، واضطرار كاسترو في النهاية إلى الانحناء أمام العاصفة على مضض. الحقيقة الثانية، هي أن كاسترو كان ثائراً حقيقياً، أي لم يكن مجرد شخص وثَب إلى السلطة لمجرد التمسك بها والتحكم في مقادير وطنه والاكتفاء بالإثراء هو وأسرته على حساب شعبه. بل هو ناضل في صفوف الشعب لسنوات طويلة ثم عندما انتصرت ثورته أعاد بناء الدولة على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حتى أصبحت نموذجاً لبلدان العالم الثالث. وتلخص هذا النموذج في العديد من المفردات التي تحققت على أرض الواقع، والتي أدخلت تغييرات جذرية على تركيبة المجتمع الكوبي من خلال تمكين المحرومين والمعدمين اقتصادياً واجتماعياً، حتى وإن اتصف النظام السياسي كما ذكرنا آنفاً، بسيطرة الحزب السياسي الوحيد، والذي بدأ حزباً ثورياً، وجعل ذلك من الثورة الكوبية مثالاً للعديد من ثوار أميركا اللاتينية أو أفريقيا أو آسيا، على الأقل على مدار فترة زمنية ممتدة في السابق. كما نجح في القضاء على الأمية بالكامل وبالإمكانات الذاتية خلال سنوات معدودة، وإقامة نظام تأمين صحي وطني نموذجي على مستوى العالم ككل، وليس فقط على مستوى بلدان العالم الثالث.
وتتمثل الحقيقة الثالثة في أن كاسترو نجح في أهم اختبار في حياته السياسية وفي حياة ثورته، وهو أنه خيَّب التوقعات التي روَّج لها الكثيرون من أن انهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي السابق في نهاية عقد الثمانينات ومطلع عقد التسعينات سيترتب عليه تلقائياً انهيار التجربة الاشتراكية في كوبا. لم يحدث ذلك على الإطلاق، بل نجحت كوبا بزعامة كاسترو في إيجاد مصادر بديلة من الدخل القومي بعد توقف المساعدات السوفياتية، كما نجحت في إيجاد مسارات بديلة. لم تبقِ فقط على حالة الصمود الكوبية، على رغم تواصل العقوبات والمقاطعة والحظر من جانب واشنطن، بل تعزَّز وضع كوبا، وطنياً بفضل الاستثمار في قطاعي السياحة والصناعات الصغيرة والمتوسطة ورواجهما، وإقليمياً بفضل اتساع رقعة اليسار الحاكم في بلدان القارة اللاتينية منذ مطلع الألفية الثالثة وقبل ذلك في عدد مهم من دول القارة، وفي مقدمها فنزويلا بمواردها الاقتصادية الضخمة وشراكتها مع كوبا. وهي تطورات أدت إلى عزل نسبي للولايات المتحدة عن تطورات القارة اللاتينية مقابل الإقرار بأهمية الدور الكوبي إقليمياً. أما على الصعيد العالمي فقد استثمرت كوبا ما قدمته من مساعدات لحركات تحرير وأحزاب وقوى يسارية في السابق، وكذلك إرسالها عشرات الآلاف من أطبائها لخدمة مناطق ريفية ونائية محرومة، سواء في إفريقيا أو آسيا أو أميركا اللاتينية، لتجني حصادها عندما تأزمت البيئة الدولية بها. كما أخذت كوبا زمام المبادرة في الكثير من الموضوعات المطروحة بقوة على جدول أعمال العلاقات الدولية، سواء سياسياً أو اقتصادياً أو ثقافياً أو إستراتيجياً، عبر مواقف متميزة عكست مصالح مشروعة للبلدان النامية ما جعلها محور جذب لالتفاف دول أخرى من العالم الثالث حولها.
تلك كانت بعض المسوغات لما ذكرته في عنوان هذا المقال وفي مطلعه من اعتبار الزعيم الكوبي الراحل فيديل كاسترو آخر الأساطير الملموسة في عالمنا، على الأقل حتى إشعار آخر، ومرة أخرى من دون الانزلاق إلى الحكم المتسرع، بالسلب أو الإيجاب، على شخصه أو تجربته، حيث إن صاحب الحق الأول في إصدار الحكم هو الشعب الكوبي، ومن بعده شعوب أميركا اللاتينية ثم شعوب بلدان العالم الثالث، بل وشعوب العالم بأسره، باعتبار سيرته ملكاً عاماً، وفي يوم ما سيقول التاريخ كلمته الأخيرة، والمأمول أن تكون موضوعية في هذا الشأن.