يظهر مأزق الليبرالية العربية المشرقية في ضمور قدرتها السياسية واقتصارها على مثقفين وحركات سياسية معزولة تنقصهم قدرة التأثيـــر في مجتمعهم. لا يتعلق هـــذا الضعـــف بخلل منطقي في البنية الفكرية لليبرالية كتيار يركز على الفــرد وحريته الشخصية واستقلاله في تقرير ما يخصه باعتباره عاقلاً ومسؤولاً عن نفسه، إنما بمعضلة تبيئة هذا التقليد وما يرتبط به من أفكار مثل المواطنة وحقوق الإنسان وحق الاختلاف والتسامح، وهي قيم لا تحوز على إجماع سياسي خارج شريحة معينة من الوسط الثقافي.
فما الذي يجعل الليبرالية مستعصية في المشرق العربي؟ سأركز على نقطتين، أعتقد أنهما حاسمتان في هذا الشأن.
الأولى تتعلق بإشكالية العلاقة بين الليبرالية والسياسة، وهنا لا بد من العودة إلى نقد كارل شميت لليبرالية. يحدد شميت السياسة باعتبارها قائمة على ثنائية الصديق والعدو، مثلما تقوم الأخلاق على ثنائية الخير والشر، والفن على ثنائية الجميل والقبيح. لا تحيل هذه الثنائية إلى بعد أخلاقي، فالعدو ليس شريراً أو موضوعاً للكراهية على رغم العداء. تدرك هذه الثنائية السياسةَ باعتبارها صراعاً وعلى السياسي، الذي تمثل يوماً بالدولة وفي المستقبل ربما بحركات عابرة لها مع ما نشهده من صعود للحركات السياسية الخارجة عن الدولة من «الدولة الإسلامية» إلى الميليشيات – حركات المقاومة، أن يتصرف ضمن منطق هذه الثنائية وما يستتبعها من قرار الحرب والسلم ومن سيذهب للموت.
في المقـــابل، تنـظـــر الليبرالية إلى التنازع بين الناس بطريقة مغايـــرة. قد يكون نموذجها الخصومة، حيث تؤول الخلافات إلى اختلافات في الرأي، نتحاور بصددها ونتسامح مع ما يبقى باعتباره حقاً شخصياً وتعبيراً عن التنوع، أو تعتمد نموذج السوق والمنافسة لفهم التنازع ويُترك حل النزاع للسوق لتقرر ما هو الأصلح. ينطلق الليبرالي من الفرد، فيعتبره الأساس ويترك له الكلمة النهائية في تقرير مصيره وتحديد ما يريده. الليبرالية لا تقدم تنظيراً حول الدولة، بل نقداً لها وسعياً للحد من صلاحياتها وحتى إلغاءها كيوتوبيا خاصة بالليبرالية.
مع اختزال الليبرالية النزاع إلى تنافس وتقديسها الفرد على حساب الدولة، فإن شميت يعترض عليها ليس لاعتبارها فكرة خاطئة إنما باعتبارها نفياً للسياسة، جهلاً تاماً بمعنى السياسة. فضمن التقليد الليبرالي لا يمكن تبرير أن يأمر شخص ما شخصاً آخر بالذهاب إلى الموت، كالأمر الذي تصدره الدولة إلى أبناء جيشها للذهاب إلى المعركة والموت من أجلها. لا يمكن من داخل الليبرالية تعليل تحكم الدولة بحياة أفراد شعبها.
الليبرالية في المحصلة الختامية لا تقدم أساساً صالحاً للسياسة، بل تنفيها وتنفي بالتالي الدولة باعتبارها مجال السياسي. غير أن هذا الإلغاء مستحيل، فكما أن لا أحد يمكن له تجاهل الخير والشر، كذلك لا يمكن له تجاهل الانقسام إلى صديق وعدو كانقسام مرافق للبشر بوصفهم كذلك.
تظهر قوة نقد شميت في شكل كامل عند مقاربة المشرق العربي ومحاولات الليبرالية المشرقية التعاطي معه. ففي اللحظة التي يعيـــش المشرق العربي فيها حرباً أهليــة طاحنة، ولا يبدو أنها ستنتـــهي في المدى المنظور، لا تملك الليبرالية شيئاً لتقدمه. فما معنـــى الحديث عن حقوق الإنسان أو المــــواطنة أو مركزية الفرد والاحتفاء بالتنوع في سياق الحرب؟ أو التبشير بأيديولوجية تتوجس من الدولة أو أية مؤسسة تقوم مقامها في قرار الحرب والتجهيز لها وخوضها، في الوقت الذي تعيش هذه المجتمعات حرباً فعلية؟ في لحظة الحرب لا يمكن لك أن تكون ليبرالياً تحت خطر أن تكون أول من يقتل فيها.
تنطلق المقاربة المعتادة لليبرالي من أن الهويات العشائرية والطائفية هويات مخترعة وتاريخية، بالإضافة إلى أنها تقييد للأفراد. كذلك لا يمكن للحروب أن تكون بين جماعات هوية، فهذه الحروب لا تفيد إلا أصحاب المصالح الذين يدفعون الناس العاديين إلى التقاتل في ما بينهم باسم هذه الهويات فيما هم يستفيدون أولاً وأخيراً من هذه الحرب. الحرب لا يمكن أن تكون بين السنة والشيعة، فقط هناك من يريد لها أن تبدو كذلك. الليبرالي قادر بالتأكيد على إظهار الاعتباطية والتاريخية في تطور هذه الهــــويات وحقيقـــة أنها متغيرة ومتحــولة في شكل كبير. لكن هذا حديـــث المؤرخ وليس السياسي. فما ينساه الليبرالي، وما يصر شميت على التذكير به، هو البعد الوجودي للتمييـــز بين الصديق والعدو، قدرة التمييز التي يملكها المرء وعليها يتوقـــف إمكان استمراره الفعلي في الحياة. هذا التمييز الذي يدركه كل فـــرد في بلادنا وهو يقف على حاجز وعلـــيه أن يميز هوية أصحاب الحاجز وطــوائفهم وانتماءاتهم، وكيف عليه أن يتــصرف حتى يعبر الحاجز حياً، أو ربما ألا يقترب منه أساساً. التمييز الذي يدركه السني باعتباره سنياً يُقتل في الرمادي والموصل وريف حلب وادلب ويخشاه الجميع ويقصرون في مساعدته لأنه سني، هو التمييز الذي يعيه العلوي في مدينة الطبقة قرب الرقة ولدى تعثره بأي حاجز للجيش الحر أو أي فصيل آخر. تمييزات يدركها هؤلاء الناس ويتصرفون بمقتضاها لأن استمرارهم في الحياة، بالمعنى الحرفي للكلمة، متعلق بها.
النقطة الثانية تتعلق بالقاعدة الاجتماعية لليبرالية، فالليبرالية الغــربية كموقف فرداني ظهرت بالتـــرافق مع ظهور البورجوازي، الفـــرد العقلاني والمسؤول عن خياراته والمتحرر من مجتمع التــراتبيات والتقاليد الموروثة، وليس بالمعنى السلبي، أي الأناني والذي لا يأبه سوى بمصلحته الخاصة، وهذا لدينـــا الكثير منه. هــذا البورجوازي – المـواطن هو ما نفتقده في المشرق العربي، حيث لا توجد فئة اجتماعية تحمل قيمه وأخلاقه كالترشيد والعقلانية والمسؤولية والفردية. الطبقة الوسطى العربية ليست المقابل الاجتماعي لتلك الأوروبية. الطبقة الوسطى العربية نشأت بفضل توسع جهاز الدولة وليس عبر مسار تاريخي خاص بها سمح لها بتطوير نظام أخلاقي وقيمي مميز ومستقل، كما أن علاقتها بالدولة مرت عبر قنوات الروابط الأهلية والرشوة الاجتماعية من النظام لضمان ولاء شريحة واسعة من السكان.
اليوم ومع التحولات التي نشهدها، من انهيار الدول وقبلاً مع انعدام سيادة القانون وتدهور الدور الاجتماعي للدولة في العقود الأخيرة حيث تولت العائلات أو الجمعيات الأهلية القيام بأعباء الرعاية الاجتماعية، فإن المرء يعود ليستظل بعشيرته بهدف حمايته والدفاع عن حقوقه وردع المعتدين عليه كما لضمان مستقبله. في مثل هذه الظروف، لن تعني الفردانية والمسؤولية الخاصة سوى وصفة سريعة للفشل وأن يُترك المرء عارياً أمام قوى لا قدرة له على مواجهتها.
مأزق الليبرالية المشرقية يتمثل في انعدام صلتها بالسياسة القائمة على القرار في مسائل تتعلق بالحياة والموت، الحرب في لحظة نعيش فيها الحرب، وغياب القاعدة الاجتماعية التي تحمل أخلاقاً وقيماً موافقة لها. هذا ليس اعتراضاً على الليبرالية كتقليد، بالتأكيد سأقف إلى جانب الليبراليين في أية انتخابات، ولكن المسألة هي في إمكان التأسيس لاجتماع سياسي يسمح بمثل هذه الانتخابات أصلاً، هذا التأسيس الذي لا يمكن تحقيقه انطلاقاً من موقف ليبرالي متسق، فهو تأسيس يحتاج إلى عنف ونضالية وقوة تفرضه كنظام اجتماعي، وهو ما تهمله ليبراليتنا.
موريس عايق
صحيفة الحياة اللندنية