أسئلة مصيرية تواجه أوروبا المعاصرة قريباً. فللمرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الأخيرة، سيُطرح مسار هذه القارة ومستقبلها شكلاً ومضموناً في المرحلة الجديدة. هذا الانتقال المتوقع يجعل من «بريكزيت» مجرد ارتعاش أولي يمهد لزلزال كبير يعيد هيكلة الخارطة الأوروبية ومحيطها المجاور وصوغهما، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
للسؤال المركزي المطروح أكثر من وجه: هل تستطيع أحزاب الوسط (وهي في معظمها الأكثر تأثيراً في حياة أوروبا عموماً حتى الآن)، ومؤسساته المختلفة ونخبه المتنوعة أن تكسب رهان الحفاظ على قواعدها التقليدية، أم أن البنى التي قامت أوروبا المعاصرة على أسسها في العقود السبعة الماضية سيصيبها الوهن في مواجهة «التمرد» الشعبوي/الجماهيري عليها؟
هذه الأسئلة مهمة جداً الآن، عشية التوجه إلى صناديق الاقتراع في بضع دول أوروبية مفصلية كألمانيا وفرنسا وإيطاليا وهولندا والنمسا: استفتاء على الدستور في إيطاليا وإعادة التصويت في انتخابات الرئاسة في النمسا اليوم الأحد، وانتخابات رئاسية في فرنسا وبرلمانية في هولندا وألمانيا خلال 2017.
في التصويت المنتظر في هذه الدول، قد تتغير أيضاً القيم التي قامت أوروبا وفقاً لها ويتحدد معها مستقبل الديموقراطية الليبرالية كمنهج للحياة والحكم في آن. هذا التصويت حاسم لا سيما أنه يجري على خلفية فوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية وفوز حركة «بريكزيت» في بريطانيا أخيراً.
كثر من المحلّلين في الولايات المتحدة قرأوا فوز ترامب على أنه يعكس حالة واسعة من الاستياء لدى فئة همّشتها عملية العولمة في مناطق تعرف باسم «حزام الصدأ»، وهي تقع في ولايات شمال شرقي أميركا والبحيرات الكبرى وولايات وسط الغرب الأميركي، نتيجة تراجع الاستثمار وهجرة الشباب والترهل العمراني وانهيار القطاع الصناعي. «حزام الصدأ» ذاته حقق سابقاً نتائج أدت إلى فوز ممثل هوليوود القديم رونالد ريغان في انتخابات الرئاسة مطالع الثمانينات.
ويصعب الآن توقع ما ستتركه نتائج فوز ترامب و«بريكزيت» في المدى المتوسط أو البعيد، لكن ما يهمّ أن حملة ترامب الانتخابية كشفت عن «تمرد» ضد المؤسسة التقليدية والحنين للهوية الأصلية قبل «تلوثها» بأفواج المهاجرين. في المقابل، عبّر تصويت «بريكزيت» عن حالة «تمرد» بين أجزاء واسعة من الطبقة العاملة المتواضعة التعليم ضد طبقة النخب التي لم تُعِرهم الاهتمام الكافي. فالذين صوتوا لمصلحة «بريكزيت» كانوا يصوتون عملياً ضد الوضع الراهن المقاوم لفكرة التغيير. ولعل هذا ما يفسر النجاح اللافت لعناصر يمينية قومية كانت هامشية قبل حين في قيادتها الفئات «المتمردة». وقد اعتبر أحد هؤلاء، وهو الزعيم السابق لحزب استقلال المملكة المتحدة (يوكيب) وعضو البرلمان الأوروبي، نايجل فرج، ما جرى في أميركا وبريطانيا ليس إلا انطلاقة «ثورة ديموقراطية عارمة» في الغرب.
لكن يبدو أن هناك ملامح لصحوة في أوساط الديموقراطية الليبرالية في أوروبا، لا سيما في ألمانيا، تحذّر من السير في المجهول إذا ما تم تفكيك المشروع الأوروبي المبني على نهضة فكرة التعاون المشترك في إطار كيان واحد لا تفصل حدودٌ بين هياكله ويتسع لجميع أبنائه. هذا هو التحدي أمام الاتحاد الأوروبي في الأشهر القليلة المقبلة بحيث نرى ما إذا كانت حالة «التمرد» ستستمر في دوله.
إيطاليا، إحدى أبرز دول الاتحاد المعرّضة للسقوط منه، تصوت اليوم على تعديل دستوري يحد من سلطة مجلس الشيوخ المعطلة لأداء الحكومة. لكن يبدو أن المقترعين يتوجهون نحو الصناديق وأعينهم تتجه الى مسألة أخرى هي تصفية الحساب مع المؤسسة (كما حصل في حالة «بريكزيت») وإفشال أحد أبرز المدافعين عن المشروع الأوروبي، رئيس الحكومة ماتيو رينزي. شعبية أحزاب إيطاليا المعادية للمؤسسة تتصاعد باستمرار على رغم حداثة سنّها، مثل «حركة النجوم الخمس» التي تشكلت في 2009، و»عصبة الشمال» المتحالفة مع «الجبهة القومية» لمارين لوبين في البرلمان الأوروبي. الحركة والعصبة تناديان بالخروج من اليورو و»العودة إلى الأصول».
على خلفية فوز ترامب و»بريكزيت»، يتوقع في النمسا أن يفوز في انتخابات اليوم مرشح «حزب الحرية» المتطرف نوربيرت هوفر الذي وضع في برنامجه الانتخابي هدفين رئيسين سيعمل على تحقيقهما: وقف الهجرة والتصدي للإسلام المتطرف. هوفر يعمل أيضاً على تنظيم استفتاء في شأن عضوية النمسا في الاتحاد الأوروبي. وعلى رغم محدودية صلاحيات الرئيس الدستورية في النمسا، ففوز هوفر سيقدم مؤشراً آخر الى ظاهرة «التمرد» على الوسط السياسي في أوروبا.
في فرنسا التي ساهمت في تشكيل الاتحاد الأوروبي وخلقه، قد تفضي الانتخابات الرئاسية في نيسان (إبريل) – أيار (مايو) 2017 الى مفاجآت تعبّر عما هو مقبل في شأن موقع هذه الدولة في أوروبا. فمع تراجع مدوٍّ لليسار ويسار الوسط، هناك تصاعد باهر لليمين المتطرف المتمثل بلوبين التي تريد «تدمير الاتحاد الأوروبي» ويمين الوسط وممثله في انتخابات الرئاسة فرنسوا فيون. هذا الأخير يكرر أن سياسة فرنسا الخارجية «يجب أن تخدم مصالح فرنسا أولاً»، كأنه يردد كلام ترامب عن «مصلحة أميركا أولاً».
في هولندا، يضع بعض الاستطلاعات زعيم اليمين المتطرف (حزب الحرية) غيرت فيلدرز المعادي علناً للإسلام، في المقدمة عشية انتخابات البرلمان منتصف آذار (مارس) المقبل. فيلدرز الذي ينتظر صدور حكم بحقه لدعوته الى «التخلص من بعض المغاربة في البلاد» (المغاربة بدأوا الهجرة في الستينات ويشكلون نحو 10 في المئة من السكان)، يدعو إلى تحالف مع ترامب «من أجل مقاومة النخب الحاكمة ووسائل الإعلام المؤيدة لها».
كذلك الحال في الانتخابات الفيديرالية الألمانية في الصيف المقبل، إذ ثمة مخاوف من تصاعد شعبية «حزب البديل لألمانيا» المتطرف على خلفية موقف المستشارة أنغيلا ميركل من السماح لأكثر من مليون لاجئ بدخول بلادها. لقد حقق هذا الحزب نجاحات مفاجئة في انتخابات بعض الولايات، لكنه لا يزال من المستبعد أن يشكل تحديا جدياً للمؤسسة الحاكمة التي نجحت في تحقيق الاستقرار والازدهار الاقتصادي في عهد ميركل. بل هناك من يرى أن ألمانيا القوية بقيادة ميركل في دورة رابعة ستكون الركن الأساس لقيادة أوروبا في عهد ترامب الغامض.
مصطفى كركوتي
صحيفة الحياة اللندنية