سوف تنتهي المعركة من أجل حلب قريباً، لكن عشرات الآلاف من السوريين هناك سيجدون القليل من السلام. وسوف يفتح الانتصار الذي حققته حكومة الرئيس بشار الأسد فصلاً آخر من العنف والارتباك في حياتهم ويكون خطيراً على المعارضة. قريباً، سيتحتم على المدنيين ومقاتلي الثوار إما مواجهة العقاب أو الهرب من المدينة والانضمام إلى عدة آلاف من الآخرين الذين شردهم السيد الأسد وحلفاؤه الإيرانيون والروس –في جزء من خطة لكسر الثورة وتغيير سورية للأبد.
في مقابلة حديثة، قال السيد الأسد أن الاستيلاء على حلب، التي ما تزال تشهد قتالاً متواصلاً منذ أعوام، “لا يعني نهاية الحرب في سورية، لكنه سيكون خطوة كبيرة في اتجاه هذه النهاية”. وهو على حق في كلا المسألتين. فمن المؤكد أن استعادة حلب ستكون الأكثر لفتاً للانتباه بين سلسلة من الانتصارات التي حققتها قواته، إلى جانب تلك الانتصارات التي حققتها روسيا وإيران ومجموعات الميليشيات الأخرى المتحالفة معهما. وتكشف توابع هذه الانتصارات ما ينتظر المدنيين والمقاتلين الثوار في حلب: صحيح أن الاستسلام قد ينقذهم من القنابل والحصار والجوع، لكن هناك ويلات ومصائب أخرى في انتظارهم.
كان تاريخ ما وصفتها حكومة السيد الأسد ذات مرة بـ”حالات الهدنة” -لكنها تسميها الآن، على نحو أكثر أمانة، انتصارات عسكرية- تاريخاً قاتماً. ففي العام 2014، اعتقلت قوات السيد الأسد مئات الشباب في المعارضة الذين كانوا قد وافقوا على الاستسلام في مدينة حمص القديمة، مركز الانتفاضة التي تم قصفها وتجويعها أخيراً إلى أن استسلمت. وكان العديدون قد تلقوا الوعود بالعفو ليصار إلى تجنيدهم في نفس الجيش الذي كان قد قتل عائلاتهم. وسمح للسكان في نهاية المطاف بالمغادرة إلى مناطق أخرى تحت سيطرة المعارضة، على أن يحمل كل عنصر من المعارضة حقيبة واحدة فقط. (سمح للمقاتلين بأخذ قطعة سلاح واحدة). وأصبح تشريد أو اعتقال السكان يجري على نفس الشاكلة كالعادة في المناطق التي استعاد النظام سيطرته عليها.
وبعد عامين من ذلك، أصبح الأسد أقل قابلية للتسوية. واليوم، يدعي بأن فرصة التوصل إلى هدنة في حلب غير موجودة من الناحية العملية”. ولا عجب في أن نجد أن ثقته قد ارتفعت بفضل سلسلة من الهزائم التي مني بها الثوار في العام 2016، والتي أُجبر الثوار بعدها على مغادرة المناطق المحاصرة والتوجه إلى محافظة إدلب في شمال غرب سورية. واليوم، وبينما تسقط منطقة بعد أخرى في حلب في أيدي النظام، يعرف الثوار أن المقاومة أصبحت عقيمة، ويعرف السيد الأسد أنهم يدركون ذلك. وفي الأثناء، سوف تجعل قواته مناطق المعارضة غير قابلة للحياة، وستعزل المقاتلين عن المدنيين وتجبر الطرفين إما على الاستسلام أو المغادرة.
تعكس عمليات التطهير هذه نمطاً معيناً، لكن الاستراتيجية التي تقف خلفها ما تزال غير واضحة المعالم. ربما يعتقد الأسد بأنه لو بقي الناس فإنهم سوف يشكلون تهديداً دائماً للمناطق المجاورة التي تقع تحت سيطرته. وربما أنه لا يريد إنفاق أموال حكومية عليهم. أو ربما يريد نظامه الذي تقوده أقلية مجرد إبعاد السنة غير الموالين إلى خارج مناطقه الرئيسية في غرب سورية. ومهما كان المنطق، فإن هذا النمط المنذر بالسوء –الذي يوصف أحياناً بأنه استراتيجية “الحافلة الخضراء”، في إشارة إلى الحافلات التي استخدمت لنقل المشردين- يرسم صورة قاتمة لما يستطيع الناس أن يتوقعوه في حلب.
سوف تستمر المعارضة، وروسيا وتركيا والولايات المتحدة، في التفاوض على مصير حلب بينما يقوم السيد الأسد بتشكيل هذا المصير. وقالت لي واحدة من مجموعات الثوار أن الثوار يطالبون بمساعدات إنسانية وبوضع حد للقصف وبضمان أن يبقى المدنيون في شرقي حلب تحت حماية الثوار. لكنهم لن يحصلوا على أي من هذه الطلبات. سوف يستسلم المقاتلون أو يجبروا على المغادرة. ويستطيع المدنيون اللحاق بهم إلى المنفى أو وضع أنفسهم تحت رحمة الحكومة. وقد ينضمون إلى مواطنيهم المشردين في إدلب أو التوجه إلى الأرياف إلى الشرق من حلب، والتي تسيطر عليها راهناً مجموعات ثوار متحالفة مع تركيا. ويقول لي أناس مقربون من الثوار أن حكومة السيد الأسد وإيران تفضلان إرسال المقاتلين إلى إدلب، حيث تستطيعان قتالهم من دون رادع، بينما يفضل الثوار التوجه إلى الملاذ الآمن الذي تحميه تركيا، لأن تواجد تركيا قد يردع النظام عن استخدام العنف هناك.
يواجه الرجال في عمر الجندية من المناطق التي يسيطر عليها الثوار المستقبل الأكثر خطورة. فقد يتم تسجيلهم في الجيش أو يعدمون أو ينضمون إلى عشرات الآلاف من الناس الذين يتضورون جوعاً في السجون السورية. وهناك مسبقاً مئات من المقاتلين الذين استسلموا ليختفوا بعد ذلك عن الأنظار، وفق الناطق بلسان الأمم المتحدة. أما المدنيون الذين يتمسكون بأماكنهم، فبالكاد يكونون آمنين: فالحكومة السورية لا تميز بين المقاتلين وبين الذين يساعدونهم أو يوفرون لهم رعاية طبية أو ملجأ أو تغطية إخبارية. ويعتبر السيد الأسد وحكومته وجنودها وداعموها هؤلاء الناس خونة وإرهابيين. ويقول أناس مقربون من الحكومة أن قوات الأسد وداعميها يعترضون على الحافلات الخضراء، ويفضلون بدلاً من ذلك جلب “الخونة” أمام المحاكم بدلاً من إرسالهم إلى إدلب.
ولكن، لماذا إدلب، المحافظة الفقيرة نسبياً والريفية التي تسيطر عليها جبهة فتح الشام، التابعة لتنظيم القاعدة والتي تصنفها الولايات المتحدة مجموعة إرهابية؟ الجواب مثير للقلق. ففي المدى القصير، سيكون السيد الأسد وإيران وروسيا منهمكون جداً في القتال للدفاع عن دمشق والسيطرة على حلب، ولن يستطيعوا التركيز على محافظة إدلب التي يكره شعبها النظام منذ وقت طويل. ومع ذلك، من غير المرجح أن يتخلى السيد الأسد على المدى البعيد عن أي قطعة كبيرة من البلد. وثمة المزيد من الخطط الطموحة قيد الإعداد لهذه المحافظة.
عندما يحين وقت استعادة إدلب -وسوف يحين- فإن السيد الأسد وحلفاؤه سيجمعون الكثير من الثوار السوريين وأنصارهم في بقعة جبلية صغيرة، حيث سيكونون فريسة سهلة لتكتيكات القصف والعزل التي كانت قد كسبت الانتصارات في أمكنة أخرى من البلد. بالإضافة إلى ذلك، وعلى العكس من حلب حيث جلبت هذه التكتيكات على الأقل رقابة واحراجاً دوليين، فإن النظام سوف يهاجم محافظة تسيطر عليها مجموعة إرهابية. ومن هي الحكومة الغربية التي تحترم نفسها والتي ستصنع الضجيج -والأقل من ذلك من المعارضة- حول حملة أخرى في الحرب على الإرهاب؟ عند تلك النقطة، سيكون المشردون والمحرومون في سورية –من المدنيين والثوار على حد سواء- مرة أخرى في نقطة تقاطع النيران، وقد بدلوا حصاراً بحصار آخر.
تشكل الحرب من أجل حلب نافذة عرض للمعاناة الإنسانية النتي لا حدود لها. ويأمل المرء بأن ينتهي العجز الغربي الذي طال أمده حتى الآن. ففي سورية، يتلاشى كل الأمان بالنسبة لإولئك الذين يوصفون بأنهم أعداء للدولة . وسوف يجلب لهم دمار حلب القليل من الغوث. وإذا امتنعت المجموعة الدولية عن العمل لفرض وقف لإطلاق النار في سورية أو أخذ المزيد من اللاجئين، فربما يكون الوقت قد حان لإقامة ملاذات آمنة في سورية للمشردين من حلب وغيرها، بمن فيهم أولئك المليون وأكثر ممن ما يزالون يعيشون تحت الحصار . وسيكون ذلك الغوث تعويضاً ضئيلا عن تدمير مدنهم ومنازلهم وعائلاتهم. لكنه يظل أفضل من الكابوس الحالي مفتوح النهاية.
فيصل عيتاني
صحيفة الغد