على ضوء ترسانة إيران المتضخمة المليئة بالصواريخ البالستية وقوة الحرس الثوري الإيراني، إلى جانب مجموعته من الميليشيات الشيعية، يشير بناؤها لقواتها التقليدية إلى سياسة خارجية أكثر عدوانية.
* * *
بيروت- تبدو إيران عاكفة على استفزاز الولايات المتحدة خلال العد التنازلي لتولي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة يوم 20 كانون الثاني (يناير) المقبل.
في أحدث سلسلة من المواجهات في الخليج والبحر الأحمر، قال مسؤولون أميركيون إن زورقاً صغيراً تابعاً للحرس الثوري الإسلامي صوب مدفعه الرشاش الثقيل نحو طائرة عمودية تابعة للبحرية الأميركية، من طراز (أم أتش 60)، كانت تطير على مسافة 800 في المياه الدولية في الخليج يوم 26 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي.
ولم يتم إطلاق أي طلقات، لكن مسولاً أميركياً أشار إلى أن العمل الإيراني كان “استفزازياً ومن الممكن النظر إليه على أنه تصعيد”.
ومما يزيد التوتر إصرار ترامب على أنه سوف يسعى إلى إعادة التفاوض على الاتفاقية التاريخية التي تم توقيعها في تموز (يوليو) من العام 2015 بين إيران والقوى العالمية بقيادة الولايات المتحدة، والتي تقيد برنامج إيران النووي المثير للجدل في مقابل رفع العقوبات الدولية المعيقة عن إيران.
وكان المرشد الإيراني الأعلى، آية الله علي خامنئي، قد قال إنه إذا حاول ترامب تمزيق الإتفاقية وإعادة فرض العقوبات، فإن إيران سترد على ذلك.
وكان ترامب قد هدد على نحو متكرر بأنه سيكون صارماً مع إيران بعد إجبارها سفينة تابعة للبحرية الأميركية على تغيير خط سيرها عندما اقترب منها زورق هجومي إيراني سريع على بعد 90 متراً وحسب، وحذر ترامب من أن القطع البحرية الإيرانية التي تتعرض للسفن الأميركية “سوف يتم إطلاق النار عليها وإغراقها في المياه”.
ومن جهته، أشار المحلل ريفا غوجون من معهد الاستشارات الأمنية العالمية الذي يتخذ من الولايات المتحدة مقراً له، إلى أنه “من الناحية الاستراتيجية، لا تتمتع الولايات المتحدة ولا إيران بوضع يسمح لهما بتجديد التوتر في الخليج من خلال إلغاء صفقتهما النووية. لكن السياسات المحلية يمكن أن تضع هذه النظرية على المحك”. والمعروف أن ترامب والمجلس الوزاري المتشدد الذي يقوم بتشكيله، إلى جانب السعودية وإسرائيل، مقتنعون بأن إيران تقوم بإنفاق الأصول الضخمة التي رُفع عنها التجميد بموجب الاتفاق النووي، بالإضافة إلى عوائدها النفطية بعد رفع العقوبات، على التوصع العسكري وعلى جيشها المتنامي من الوكلاء الإقليميين المسلحين.
في الحقيقة، يبدو أن هذا هو واقع الحال. ففي يوم 26 تشرين الثاني (نوفمبر)، نسبت وكالة أنباء تسنيم الإيرانية شبه الرسمية إلى الجنرال محمد حسين باقري، المتشدد الذي عين مؤخراً رئيساً لأركان القوات الإيرانية المسلحة، قوله أن طهران عاكفة حالياً على دراسة تأسيس قواعد بحرية في سورية واليمن؛ حيث ينخرط الحرس الثوري الإيراني في القتال في البلدين.
وقال باقري إن هذه القواعد هي “أهم بعشر مرات” من الترسانة النووية، وتشكل “رادعاً”. وأضاف: “عندما نجد أن ثلثي سكان العالم يعيشون بالقرب من الشواطئ وأن الاقتصاد العالمي يعتمد على البحر، فإن علينا أن نتخذ إجراءات”.
وكانت هذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها قادة عسكريون إيرانيون علانية عن إقامة قواعد بحرية في بلدان إقليمية أخرى، وهي استراتيجية لم تعمد إلى محاولتها حتى الآن أي قوة شرق أوسطية.
ويشير طموح باقري إلى اتجاه عام لدى إيران لتحديث قواتها العسكرية التقليدية إلى مدى مقلق بالنسبة للولايات المتحدة وللقوى العربية أيضاً.
لقد حُجب جيش إيران النظامي المهمل منذ أمد طويل منذ العام 1979 في ظل الحرس الثوري الإيراني المدفوع أيديولوجياً، بينما سلاح إيران الجوي مجهز في جزئه الضخم بطائرات قديمة ومعمرة بسبب الحظر الدولي على الأسلحة، والذي يعود وراءً إلى قيام الثورة الإسلامية. أما الأصول الرئيسية في البحرية الإيرانية، فهي أربع غواصات قديمة من طراز “كيلو كلاس”، والتي كانت إيران قد اشترتها من روسيا في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.
وكان خامنئي قد قال يوم 31 آب (أغسطس) الماضي أنه “من أجل أمن شعبنا وبلدنا ومستقبلنا، يجب علينا أن نزيد من قدراتنا الجومية وقدراتنا الدفاعية أيضاً”، لضمان “أن تشعر القوى القمعية بأنها مهددة” -يعني الولايات المتحدة وحلفاءها في الغرب.
يقول مسؤولون أميركيون إن ثمة قلقاً متنامياً، ليس في واشنطن وحسب وإنما في الغرب عموماً ولدى خصوم إيران الإقليميين -بما في ذلك المعارضين منذ وقت طويل إسرائيل والسعودية لتوسع إيران العسكري الطموح. ويشيرون إلى ما يقولون إنها اتفاقية أسلحة تظهر بين طهران وموسكو بقيمة 10 مليارات دولار.
مقارنة بالمبالغ الضخمة التي أنفقتها السعودية والدول الخليجية على الأسلحة على مدى الأعوام العشرين الماضية، فإن هذا الرقم يبقى متواضعاً إلى حد كبير. ولكن، بالنظر إلى ترسانة إيران المتضحمة من الصواريخ البالستية وقوة الحرس الثوري الإيراني مع فيلقه الكبير من الميليشيات الشيعية، فإن بناء قوة إيران التقليدية يشير إلى سياسة خارجية أكثر جسارة. بكل المعايير، تسعى إيران إلى الحصول على دبابات “تي-90” لاستبدال دباباتها المعمرة من طراز “تي 72″، وحتى الأقدم من طراز “تي 62” والبريطانية “تشيفتين” والأميركية “أم 47″ و”أم 48” التي ورثتها عند الإطاحة بالنظام الملكي المدعوم من الولايات المتحدة في العام 1979. وتريد طهران أيضاً أسلحة مدفعية متطورة ومراقبة بالرادار وطائرة سوخوي الروسية “أس يو-33” المقاتلة لسلاحها الجوي المتداعي المكون بشكل رئيسي من طائرات “فانتوم أف-4” التي تعود إلى حقبة فيتنام، بالإضافة إلى طائرات “أف14 تومكات” المقاتلة. ويتطلع الجنرالات في طهران تحت قيادة باقري المتشدد إلى الصين التي تصنع أنظمة أسلحة متقدمة.
ولاحظ سعيد قاسمي نجاد، المتخصص في الشأن الإيراني والذي يعمل مع مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات ومقرها واشنطن: “على مدار الأعوام القلية الماضية، ثمة مثلث ناجم يتأطر أمامنا: تحالف بين إيران وروسيا والصين”. وأضاف أن “الصين هي العضو الأقل تحمساً في هذا المثلث. في حين أن إيران وروسيا تظلان منافحتان ومتحمستان في هذا الموضوع”. يشكل إيران وروسيا داعمين رئيسيين للرئيس السوري بشار الأسد، وقد منع تدخلهما العسكري في سورية الإطاحة به، وتتواجد طهران وموسكو في سورية خدمة لأهدافهما الاستراتيجية، وفي مقدمتها توسيع نفوذهما وقوتهما في الشرق الأوسط.
يقول قاسمي نجاد وغيره من المحللين إن من شأن صفقة أسلحة إيران المحتملة مع روسيا انتهاك روح اتفاقية تموز (يوليو) 2015، وتحدي قرارات مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة التي تحظر حيازة إيران أسلحة هجومية. وكانت إيران رمت قفاز التحدي مسبقاً بإجراء سلسلة من ثماني تجارب على الأقل لصواريخ بالستية في الأشهر الأخيرة، وهو ما يدعي الأميركيون أنه يشكل خرقاً لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2231، مشيرين إلى أن الصواريخ تعد أسلحة هجومية. وتصر طهران على أن الصواريخ دفاعية في طبيعتها لأنها تشكل رادعاً ضد أي هجوم.
من جهته، أكد باقري في سياق مخاطبته عرضاً عسكرياً في طهران بمناسبة ذكرى الحرب العراقية الإيرانية بين العامين 1980-1988، أن إيران تحتاج إلى الصواريخ بعيدة المدى لردع أعدائها وتجنب مصير دول إقليمية أخرى، مثل سورية والعراق واليمن. في الوقت نفسه، وفي غمرة الاستهداف الأخير للسفن الأميركية في الخليج والبحر الأحمر، صعد المتشددون في إيران، بمن فيهم خامنئي، من وتيرة خطابهم المناهض للدور الأميركي في اليمن. ويقولون أن الولايات المتحدة التي تزود السعودية بالاستخبارات وتزود طائراتها في الجو، هي التي تدير الحرب في اليمن. ولاحظ فرزين نديمي من معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، المؤسسة الفكرية الرئيسية المدعومة من إسرائيل، أن “النظام الإيراني سينظر على الأرجح إلى أي محاولة لوضع حدود على الصواريخ البالستية على أنها عائق لحق إيران الشرعي في الدفاع عن نفسها”. ويأتي ذلك في سياق ما تشير إليه القيادة الإيرانية هذه الأيام على أنه “حدود الأمن القومي” -الذي يحاصر أراضي تتجاوز الجبهات الجيوسياسية للجمهورية الإسلامية- وهو يبين أن مفهوم إيران للأمن القومي قد توسع، ليتطلب إمكانيات عسكرية أكبر ووسائل لعرض القوة.
إد بلانش
صحيفة الغد