لعب الشيعة اللبنانيون دورا كبيرا في نشر التشيع خلال عهد الدولة الصفوية. واقتصر الأمر على الجانب الفقهي، لكن انقلبت الصورة في عهد “لبنان حزب الله” وإيران الخمينية.
وأصبح شيعة لبنان تابعين لإيران المتشيعة. وتداخلت الأمور سياسيا، بل وأصبح الوضع في لبنان مرتهنا بخطط إيران، وغلب المذهب الوطن عند كثيرين.
وهناك من اللبنانيين الشيعة من نأى بنفسه عن هذه المعادلة غير أن حزب الله كان بالمرصاد له، يعمل على استمالته تارة بالترغيب وأخرى بالتهديد، و استطاع حزب الله فرض هيمنته على الطائفة الشيعية في لبنان واحتكار تمثيل أغلبه سياسي وعسكري مستفيدا من الوضع المالي والاقتصادي الضعيف بالإضافة إلى التجييش الطائفي.
لذلك، تعتقد مجموعة كبيرة من الباحثين أن “تحرير” الطائفة الشيعية في لبنان من استغلال حزب الله يبدأ بمقدمات ومخارج اقتصادية. لكن هذه المخارج الاقتصادية والحلول، لا تقتصر فقط على فرض العقوبات على التنظيم، بل ترى الباحثة اللبنانية حنين غدار أنها يجب أن ترتكز على بدائل اقتصادية.
وتشير غدار، في دراسة لها صدرت عن معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، إلى أن حزب الله أضحى في وضع مالي لا يؤثّر فيه كثيرا فرض عقوبات عليه من بنك لبناني أو حتى من الولايات المتحدة الأميركية.
وتستند الباحثة في هذا السياق إلى تصريح للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله يسخر فيه من العقوبات الأميركية، مدعيا أنه لن يكون لها أي تأثير على الحزب لأنه يحصل على أمواله من طهران.
معظم الأموال القادمة من إيران تخصص لتمويل عمليات الحزب العسكرية في سوريا والعراق واليمن وأي مكان آخر
ورغم أن هذا الواقع بات معروفا جيدا، كان اعتراف نصرالله العلني بالتمويل الإيراني سابقة بالنسبة لمسؤول في حزب الله. ففي 24 يونيو، قال نصرالله “طالما يوجد في إيران فلوس فنحن لدينا فلوس والمال المقرر لنا يصلنا مثل الصواريخ التي تصلنا لنهدد بها إسرائيل ولا يستطيع أي قانون في العالم أن يمنع وصول هذا المال إلينا”.
وكان نصرالله حذر أيضا المسؤولين اللبنانيين من استهداف الشيعة الذين لا ينتمون إلى الحزب بالعقوبات.
وقبل أسبوعين من تصريحات نصرالله، استهدف انفجار قنبلة المقر الرئيسي لبنك لبنان والمهجر في بيروت، ثاني أكبر بنك في لبنان وإحدى المؤسسات المالية التي جمّدت حسابات مرتبطة بحزب الله.
وفي 3 مايو 2016، أصدر “مصرف لبنان” -المصرف المركزي اللبناني- تعميما دعا فيه كافة المصارف إلى إغلاق حسابات تعود إلى أفراد ومؤسسات مرتبطة بحزب الله.
وتقول غدار إن هذا التعميم صدر في أعقاب تشريع جديد أصدرته الولايات المتحدة عُرف باسم “قانون مكافحة تمويل حزب الله دوليا” وتمّ توقيعه ليصبح قانونا في منتصف ديسمبر 2015.
ومنذ مايو الماضي، جرى إغلاق المئات من الحسابات، الأمر الذي سبّب حالة من الذعر في أوساط المؤسسات والكيانات الأخرى المرتبطة بالحزب.
في المقابل لفتت الباحثة والإعلامية اللبنانية فاطمة حوحو لـ”العرب” إلى إن “إغلاق حسابات مؤسسات تابعة لحزب الله أزعج الحزب وجعله يشن حملة على رئيس المصرف المركزي رياض سلامة وقد تدخل وسطاء ماليون على الخط خصوصا وأن بعض المصارف طبقت القانون الأميركي حتى بالحسابات الخاصة. ورغم أن الإجراءات المصرفية ضد الحزب ازعجت بيئته، إلا أنها لم تؤثر على استمرارية تمويله”.
عقوبات مالية
يقول الكاتب والإعلامي اللبناني مصطفى فحص لـ “العرب” “إن العقوبات المالية الأميركية والغربية والخليجية التي فرضت على حزب الله، أدت إلى إرباك حركته المالية وإلى خفض وارداته التي كانت تأتيه من خلال مشاريع تجارية خارجية أو من خلال المتبرعين الشيعة من رجال الأعمال المغتربين، كما أن العقوبات أدت إلى تراجع أصحاب رؤوس الأموال الشيعية عن دعم الحزب خوفا من أن يتم محاصرتهم والتأثير على تجارتهم وهذا بطبيعة الحال سيؤثرعلى عملية التمثيل داخل الطائفة”.
ويضيف فحص “من الطبيعي أن يبحث هؤلاء عن غطاء سياسي آخر غير الحزب، ويؤدي ذلك إلى بروز مراكز قوى داخل الطائفة تنادي بضرورة التمايز عن الحزب حفاظا على المصلحة العامة الشيعية التي باتت مهددة، كما باتت فرص العمل معدمة لدى أبناء الطائفة بسبب سياسة التحفظ التي تمارسها الشركات الكبرى في المنطقة وحتى في لبنان، والتي تمارس سياسة استبعاد أبناء الطائفة الشيعية خوفا من أن تكون لهم صلات بالحزب، وكأن هناك سياسة موجهة تهدف إلى الضغط على المجتمعات الشيعية من أجل فك الارتباط بينها وبين حزب الله من أجل إضعافه داخل طائفته والانتهاء تدريجيا من فكرة احتكاره للتمثيل الشيعي”.
ويعتقد الكاتب اللبناني نارد فوز خلال تصريحه لـ”العرب” أن ” فرض العقوبات على حزب الله والمسؤولين فيه، مصرفياً، شكّل رجة حقيقية للمتموّلين الشيعة، لكن على ما يبدو فإنّ العقوبات لن تطال خطوطا حمراء، على قاعدة ‘لا يفنى الغنم ولا يموت الذئب جوعاً’”.
وتؤكد دراسة معهد واشنطن من خلال عدد من المقابلات التي أُجريت مع مقاتلين في صفوف “حزب الله” وأعضاء فيه وداعمين له، على تجلّي شعور واحد يجسد انفتاح هؤلاء الأفراد على البحث عن فرص اقتصادية خارج نطاق الحزب.
تبعية علنية
وتستعرض الدراسة وضع حزب الله تاريخيا، حيث كان هذا التنظيم يقسم نفقاته بين القطاعين العسكري والخدماتي، وبين مجتمعه الرئيسي في لبنان والمجتمع الشيعي الأوسع نطاقاً في المنطقة.
أما اليوم فقد حوّل حزب الله نفسه إلى ميليشيا إقليمية أو ذراع إيران العسكرية في المنطقة وأصبحت معظم الأموال القادمة من الجمهورية الإسلامية تُخصّص لتمويل عملياته العسكرية في سوريا والعراق واليمن وأي مكان آخر تسعى فيه إيران إلى نشر قوات بالوكالة.
ولا تزال معظم المؤسسات الخدماتية الخاصة بـحزب الله قائمة، على غرار المراكز الصحية، لكنها لم تعد مموّلة بما يكفي لخدمة المجتمع ككل، وبالتالي تلبية احتياجات المقاتلين وأسرهم من خلال توفير الخدمات الأساسية مثل الرعاية الطبية والتعويضات.
ويعتقد مصطفى فحص أن حزب الله حدد وهو يخوض حربا إقليمية أولوياته في الإنفاق، فأغلب ميزانيته في الوقت الحالي تذهب لصالح المجهود الحربي، خصوصا أنه يقود حربا شاملة في سوريا، وضالع في أعمال قتالية في العراق واليمن إضافة إلى أنه يقوم بالإنفاق على حلفائه في لبنان، لذلك لم يعد مستغربا أن يقوم بتقليص المصاريف وفقا للأولويات الأساسية”.
ويتفق معهما نادر فوز قائلا “طبعاً بدأت تكاليف المعركة العسكرية تؤثر على مؤسسات حزب الله ‘غير العسكرية’ تحديداً في ظلّ العقوبات المالية المفروضة أميركياً على الحزب والمسؤولين فيه والمقرّبين منه”.
وسبق لمؤسسات عدة تابعة للحزب، منها ما هو معني بالصحة والطب والتعليم وغيرها، أن اعتمدت سياسات مالية لتخفيف أعباء نقص الأموال في حزينة الحزب.
فعمدت إلى تأخير صرف الرواتب، أو حتى تسديد نصف الرواتب للموظفين فيها، أو حتى وضع سياسات لإعادة الهيكلة المالية لمؤسسات إعلامية ممولة مباشرة من حزب الله وإيران. وبالتالي يمكن القول إنّ بيئة الحزب تتأثر بشكل مباشر نتيجة الاستنزاف الحاصل”.
وأطلع أحد أعضاء البرلمان السابقين صحيفة “فاينانشال تايمز” على أن حزب الله يواجه انقساما بين المقاتلين وأفراد عائلاتهم -الذين ما زالوا يتلقون إعانات- وبين أعضاء حزب الله من غير المقاتلين والموالين له، الذين يُتوقّع منهم بوضوح التخلي عن كافة منافعهم إلى حين انتهاء الحرب في سوريا فأولوية الحزب تمويل المقاتلين وعائلاتهم على حساب باقي أعضاء الحزب.
توظيف الحرب السورية
يشارك حزب الله في الحرب السورية كموال لنظام بشار الأسد وطهران حيث يدعم النظام في شن حرب ضارية ضد شعبه أدت مؤخرا إلى السيطرة على حلب وخلفت القتلى والجرحى والكثير من الدمار.
ويؤكد فحص أن الحزب يستغل الحرب السورية في إقناع عموم الشيعة بأنه المدافع عن مقدساتهم
وعن سلامتهم في معركة وجودية، يخوضها دفاعا عن أتباع المذهب، ما يؤمن له حاضنة شعبية كبيرة، لكن هذه الحاضنة لن تستطيع السير مع الحزب إلى ما لا نهاية، حتى لو استطاع تأمين ما يلزم من خدمات مالية واجتماعية وحتى لو كانت هذه الطبقة مقتنعة عقائديا بخطاب الحزب، إلا أنها تنتظر منه أن يحقق انتصارا سريعا، غير أن الحزب فشل حتى اليوم في تحقيق هذا الانتصار وهو يستدرج إلى المزيد من الاستنزاف، ما يتسبب بتزايد حالة القلق لدى جمهور الحزب”.
وأوضحت حوحو أن حزب الله لا يناقش بل يفرض أمرا واقعا على الطائفة، ويأمر الطائفة باسم ولاية الفقيه، والمعترضون خائفون من التحرك خصوصا وأن حزب الله روج لواقع وجود تكفيريين وسلفيين وهابيين.
ولفت نادر إلى أن وجود مكوّن أساسي، كرئيس مجلس النواب اللبناني ورئيس حركة أمل نبيه بري، داعم إضافي لحزب الله خصوصاً مع التفاهم والتحالف الجديين القائمين بين الطرفين حيث ساهم وجوده في تأمين الوظائف في القطاع الرسمي لأبناء الطائفة الشيعية (كما يؤمن باقي زعماء الطوائف الوظائف لأبناء طوائفهم وفق منطق المحاصصة الطائفية القائمة في لبنان منذ انتهاء الحرب الأهلية عام 1990).
ويرى نادر فوز أن الحرب في سوريا تؤثر على احتكار تمثيل الشيعة من قبل الحزب، ويقول “بدأت منذ أشهر بيئة حزب الله تتساءل عن الأسباب والدوافع التي تدفع أبناءها إلى القتال والموت في سوريا.
إذ أنه حصل تباين واضح بين حزب الله وحركة أمل في هذا الشأن، حيث منعت الحركة أنصارها من المشاركة في الحرب السورية مقابل البدل المالي. حتى أنّ حالات الاعتراض على تلك الحرب ظهرت خلال مآتم عدد من قتلى الحزب في مناطق مختلفة، لكن بقيت أيضاً مضبوطة ومحدودة”.
وتقول دراسة معهد واشنطن إن قضية السلاح الذي بيد حزب الله جعل الطائفة ككل مسلحة إلى حدّ كبير، مع ميل نحو العنف، مما أدى إلى حدوث ارتفاع خطير في معدلات الجريمة لا سيما في الأحياء الأكثر فقراً.
ويفسر فحص قائلا “عندما دخل الحزب في الحرب السورية أصبح بحاجة إلى التفاف جماهيري من حوله وهذا أثر على سمعته داخليا وذلك بسبب حاجته إلى إرضاء الشارع حيث يختلط أصحاب العقيدة أو الخط السياسي بأصحاب المصالح و المنافع الذين يتسرب من خلالهم أصحاب السوابق المتفلتين من كل قيود اجتماعية، وقد استغلوا الحزب من أجل تأمين غطاء وحماية لهم خصوصا أن أدوات الدولة معطلة في مناطق نفوذ الحزب فتصبح هذه المناطق تحت رحمة جماعات خارجة عن القانون تتصرف بحرية لعدم قدرة أي أحد على معاقبتها وحاجة الحزب جعلتها تستقوي عليه في الكثير من المحطات”.
وتعتقد فاطمة حوحو أن سلاح حزب الله شجع الشباب العاطل عن العمل على حمل السلاح والقتال في سوريا أو غيرها إذ أن ذلك أصبح مورد رزق له خصوصا وأنه يقوم بذلك ليس عن قناعة وإنما بسبب الحاجة حيث الأزمة الاقتصادية الاجتماعية كبيرة والبطالة منتشرة، لا سيما في المناطق الفقيرة والضاحية جزء منها، عزل الطائفة الشيعية عن بقية اللبنانيين والتحريض المذهبي الذي اعتمده حزب الله تسببا في ابتعاد الشباب عن استخدام لغة العقل، وتشير إحصاءات إلى أن الشباب الشيعي تراجعت أعداده في الجامعات أي أن الأمية تتفشى والجهل يعم والتعصب يزداد والفقر ينتشر في ظل غياب دور الدولة.
بدائل اقتصادية
تقول دراسة معهد واشنطن إن معظم شبان الشيعة، لا يقبلون العنف الطائفي ولا الدخول في معارك بعيدة عن العدو الرئيسي الاسرائيلي، حتى أنهم لا يرغبون في الذهاب إلى ساحة المعركة في سوريا ويفضلون البحث عن القروض لتأسيس عمل لهم أو البحث عن وظائف للعمل في الخارج، و في حال توفر بدائل لهؤلاء الشبان سيتركون الانخراط المباشر في معارك الحزب.
وتؤيد فاطمة حوحو هذه النقطة وتقول “ربما يكون هذا الأمر صحيحا لدى البعض من المقاتلين، إلا أن هناك آخرين تربوا على التعصب وامتلأت صدورهم بالحقد ويقاتلون لأسباب دينية وقناعات هي بمثابة التزام ديني فمن يقنع هؤلاء بعبثية خياراتهم الانتحارية إذا لم يتغير خطاب حزب الله السياسي ويتوقف عن التعبئة المذهبية”.
وتضيف حوحو أن هناك دائما أشخاصا يقاتلون للفائدة المالية وشباب أقفلت في وجوههم أبواب العمل أو وضعوا أمام خيارات صعبة وليس بإمكانهم إلا القتال لتوفير المال اللازم لعيشهم أو عيش عائلاتهم.
ويعتقد نادر فوز أنّ طموح أي شاب كان، لأي طائفة انتمى، هو تأسيس حياة هادئة وإيجاد وظيفة تلبي حاجاته وطموحاته، علّه ينجح في مندرجات الحياة. لكن الوضع الاقتصادي السيء يدفع الآلاف من الشبان اللبنانيين إلى الالتحاق بحزب الله وعسكره لتحصيل ما بين 400 و800 دولار أميركي لكل فرد شهرياً ليعيل نفسه وعائلته.
ويقول فوز “ومن المنطقي القول إنّ تأمين بدائل اقتصادية ووظائف لهؤلاء الشبان قد يبعدهم عن الحرب والسلاح والمعارك. ولو أنّ الحزب، بعقيدته، يحمل حرماً دينياً يمكن أن يلجأ إلى استخدامه معنوياً لمواجهة معارضيه أو الخارجين عن تنظيمه”.
وكان مصدر إعلامي محلي نقل عن أحد مقاتلي حزب الله خلال إجازة من القتال في نهاية أحد الأسابيع قوله “أوجدوا لي وظيفة في أي مكان، وسأعود من سوريا غداً”.
وهو ما يطرح تساؤلات عدة عن مدى استياء مقاتلي الحزب إلى درجة اعتبار أن القتال هو مجرد عمل لتأمين احتياجات الحياة وبمجرد توفر عمل أفضل سيتخلى عن هذه المهام التي يصفها الحزب بـالمهام الجهادية.
صحيفة العرب اللندنية