كانت حلب جزءاً من التاريخ البشري لنحو خمسة آلاف عام. ويقال إن النبي إبراهيم، عليه السلام، كان قد رعى ماشيته في سفوحها وأعطى حليبها للفقراء المحليين. كما أسس الإسكندر الكبير مستوطنة هيلينية هناك. وورد ذكر المدينة في كتاب صمويل وفي المزمور 60، وعكس سكانها على مدى قرون كانها الديانات الإبراهيمية الثلاث الكبرى. وكانت حلب عند إحدى نهايتي طريق الحرير القديم، وكانت حاضرة رئيسية للعديد من الإمبراطوريات التي غزت وحكمت المنطقة. وكانت قلعتها التي تعود إلى القرون الوسطى ذات أهمية محورية خلال الحملات الصليبية، وهي من أقدم وأضخم القلاع في العالم. والأحدث أن شكسبير أشار إلى حلب في مسرحيتيه “مكبث” و”عطيل”.
والآن، يبدو أن المعركة من أجل حلب، والتي خاضت غمارها منذ العام 2012 الحكومة الاستبدادية للرئيس بشار الأسد ضد مجموعة متنوعة من ثوار المعارضة غير المنظمين، قد انتهت. وقد توسطت تركيا وروسيا يوم الثلاثاء الماضي في التوصل إلى صفقة تسمح بالمرور الآمن لآخر مقاتلي المعارضة وعائلاتهم، وأي مدنيين يريدون المغادرة -في نهاية للعذاب. وقال السفير الروسي لدى الأمم المتحدة، فيتالي تشيركين، لمجلس الأمن الدولي: “كل المتشددين، سوية مع أفراد عائلاتهم والجرحى، يعبرون الآن الممرات المتفق عليها متجهين إلى وجهات اختاروها بأنفسهم طوعاً”.
وفي الأثناء، قال لي مسؤول من وزارة الخارجية الأميركية إن الولايات المتحدة ليست طرفاً في الصفقة. وقال: “إننا نرحب بوقف لإطلاق النار، لكننا لسنا متأكدين من النوايا الروسية. تاريخياً، لم يكن الروس يعنون دائماً ما يقولونه”.
الكثير من أجزاء المدينة المشهورة، والأكبر في سورية، دُمر مسبقاً. ونزعت أحشاء البلدة القديمة. وقورن الدمار الذي حل بالمدينة بذلك الذي كان قد لحق بستالينغراد وبغيتو وارسو. وفي اللحن الختامي للضربات الجوية الوحشية التي تسارعت منذ الصيف، سقط شرق حلب الأسبوع الماضي في يد القوات الجكومية التي تسيطر مسبقاً على النصف الغربي من المدينة.
أصبحت الوحشية أساسية لا غنى عنها. ويوم الاثنين الماضي، أعرب الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، عن قلقه من التقارير التي تحدثت عن عشرات من الإعدامات الميدانية التي أقدمت عليها القوات الحكومية، ومئات من الرجال “المفقودين”، وعن ارتكاب أعمال عنف ضد النساء والأولاد خلال اندفاعة الجيش الأخيرة. وخلال جلسة خاصة لمجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، خصصت لبحث أزمة حلب، قال سفير فرنسا لدى الأمم المتحدة، فرانسوا ديلاتر: “تتكشف أمام أعيننا أسوأ مأساة إنسانية في القرن الحادي والعشرين”، كما حذر الصليب الأحمر الدولي من “كارثة إنسانية”، بينما تغرق حلب في دوامة الفوضى العارمة. وقال المرصد السوري لحقوق الإنسان: “في كل ساعة، يتم ارتكاب مجزرة”. ويوم الثلاثاء قال المرصد إن حوالي ستة آلاف فتى ورجل قد اعتقلوا بعد هربهم من المناطق التي يسيطر عليها الثوار.
يشكل سقوط حلب أكبر انتصار للأسد في هذه الحرب المروعة المستمرة منذ ست سنوات، والتي أسفرت عن مقتل اكثر من أربعمائة ألف شخص وتركت أكثر من نصف عدد سكان سورية، الذين كانوا في الأصل 22 مليون شخص، معتمدين على المساعدات الدولية في استدامة حياتهم اليومية. وكانت المتناقضات تعمل دائماً ضد مجموعات الثوار الأقل عدداً وعتاداً من حكومة تملك قوة جوية -وقوات روسية وإيرانية ولبنانية شيعية لتدعمها. وفي الأيام الأخيرة في شرق حلب، انهارت مجموعات الثوار تماماً.
وقال العميد السوري زيد الصالح متحدثاً إلى المراسلين الصحفيين بينما يقوم بجولة في أحد الأجزاء المستعادة من المدينة: “ليس لديهم الكثير من الوقت. سيكون عليهم إما أن يستسلموا أو يموتوا”. وقد عمد المدنيون الذي أصبحوا في حالة رثة، بعد أن كانوا لفترة طويلة تحت الحصار ومن دون مستشفيات نظراً لقصف آخر مستشفى في هذا الخريف- إلى الهرب من شرق حلب في جماعات.
يشكل غزو سلالة الأسد لحلب هبة للروس الذين يتوقون إلى أن تكون سورية حليفهم العربي الرئيسي. وقال لي مسؤولون أميركيون أن موسكو ربما تلعب على وتر الانتقال الرئاسي في الولايات المتحدة. وهي تحاول ضمان استعادة الأسد السيطرة على أكبر قدر ممكن من الأراضي السورية قبل تنصيب الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، رسمياً -من أجل تقديم استدامة النظام كأمر واقع. كما أن إيران وحلفاءها من حزب الله كاسبون أيضاً، على الرغم من الكلفة.
وفي المقابل، تشكل خسارة حلب انتكاسة كبيرة للغرب وتركيا والدول الخليجية التي دعمت فصائل عدة من الثوار في سورية بالأسلحة والتدريب أو الأموال. وعلى مدى عامين، يحاول وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، التوسط للاتفاق على انتقال سياسي يضم الحكومة والمعارضة على حد سواء. وعندما انهار هذا الجهد، ذكر أنه اجتمع مراراً مع نظيره الروسي، سيرغي لافروف، حتى الأسبوع قبل الماضي في هامبورغ -في محاولة للتفاوض على وقف لإطلاق النار يسمح للثوار والمدنيين بخروج آمن إلى مكان من اختيارهم. وفي النهاية، استطاعت روسيا صنع صفقة استبعدت منها الولايات المتحدة.
انعكس التوتر المتعمق بين واشنطن وموسكو على حلب في تبادل اتهامات في مجلس الأمن يوم الثلاثاء. فقد وبخت السفيرة الأميركية سامانثا باور الأسد وروسيا وإيران. وقالت: “إن قواتكم ووكلاءكم هم الذين ينفذون تلك الجرائم”. وأضافت: “لقد سمحت قنابل براميلكم وقذائف المورتر وضرباتكم الجوية للمليشيات في حلب بتطويق عشرات الآلاف من المدنيين في أنشوطتكم التي تزداد ضيقاً. إنها انشوطتكم. ثلاث دول أعضاء في الأمم المتحدة تسهم في لف الأنشوطة حول أعناق المدنيين. يجب أن تخجلوا من أنفسكم. وبدلاً من ذلك، ووفق كل المظاهر، نجدكم قد تشجعتم. وأنتم تعدون لهجومكم التالي. هل أنتم بحق غير قادرين على الشعور بالخجل؟ هل هناك لا شيء حرفياً يستطيع أن يشعركم بالعار؟ أليس هناك أي عمل من البربرية ضد المدنيين، ولا إعدام طفل يمكن أن يتسرب تحت جلدكم، والذي يمكن أن يخزكم قليلاً؟ وهل هناك شيء لن تكذبوا فيه أو تبرروه؟”.
ورد المندوب الروسي تشيركين بأنه “لأمر غريب جداً” أن تصدر باور بياناً “وكأنها الأم تيريزا”. وأضاف: “لطفاً، تذكري أي بلد تمثلين. ولطفاً، تذكري سجل بلدك، وبعدها تستطيعين البدء في الإدلاء برأيك من موقع أي تفوق أخلاقي”.
قبضة الأسد المستعادة على مركز سورية التجاري، لن يضع نهاية للحرب. وإنما ما يزال الوضع بعيداً جداً عن ذلك. فقد أصبح الصراع السوري متعدد الطبقات بازدياد. وثمة مزيج من مجموعات الثوار -بعضها قومية، وبعضها محلية، وبعضها غير أيديولوجية، وبعضها إسلامية، بما في ذلك الفصيل الأكثر قدرة، جبهة فتح الشام التي كان اسمها السابق جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة- والتي ما تزال تسيطر على محافظة إدلب في الشمال الغربي. ومن المرجح أن يحاول الأسد وداعموه الأجانب استعادتها تالياً. وقد يتبين أنها أصعب من حلب. وكان جيش الأسد قد طوق حلب وقطع الطرق الموصلة بينها وبين تركيا، والتي كانت تتيح للثوار إعادة التزود بالمؤن وإعادة التسلح. وسيكون من الصعب جداً فعل ذلك في إدلب الواقعة على الحدود مع تركيا. وسيكون على تركيا أن تنقلب عن معارضتها طويلة الأمد للأسد وأن تدير ظهرها للثوار.
وثمة حرب منفصلة تجري في الشمال الشرقي، على طول الحدود مع العراق، والذي يحتله تنظيم “داعش” منذ أواخر العام 2013. وهناك، يضع الكثير من القتال “داعش” في مواجهة ثوار سوريين آخرين. وقد خسر “داعش” نحو 30 في المائة من المنطقة التي كان يسيطر عليها، تحت ضغط من قوات سورية الديمقراطية، وهي ميليشيات كردية في أغلبها، تدعمها القوة الجوية الأميركية. وكان مقاتلو “داعش” قد قاتلوا جيش الأسد في أماكن أقل، مثل تدمر في وسط الصحراء السورية، التي استولى عليها “داعش” في أيار (مايو) من العام 2015، ثم استعادها الجيش السوري في آذار (مارس). ومع ذلك، أثبت “داعش” في عطلة نهاية الأسبوع أنه ما يزال يستطيع المباغتة. فبينما كان جيش الأسد منهمكاً في حلب، أعاد “داعش” احتلال تدمر. وأصاب دمشق بالذهول.
لا يظهر الصراع في سورية أيضاً أي علامات على أنه يوشك على الانتهاء، لأنه امتص إليه دولاً وقضايا ورؤى سياسية متنافسة أخرى وتوترات طائفية. كما أن توازن القوى في الشرق الأوسط -خاصة بين القوتين الإقليميتين المتنافستين، السعودية وإيران، والذي يشمل آخرين- أصبح في خطر أيضاً في سورية، التي تشكل أملاكاً جيو-استراتيجية رئيسية. وكانت الرياض قد دعمت العديد من الثوار السنة، بينما دعمت طهران الحكومة السورية بقيادتها العلوية، طائفة الأقلية المرتبطة بالشيعية. ولا تتعلق التوترات بالتعاليم الدينية وحسب؛ إنها تتعلق أيضاً بالرؤى السياسية والمصالح المتنافسة في الشرق الأوسط. ومن غير المرجح أن يتنازل أي من الجانبين، حتى عندما يضعف حلفاؤه.
خلال فترة إدارة أوباما، تكشفت منافسة موازية بين الولايات المتحدة وروسيا حول سورية. وقد يتغير ذلك في عهد ترأمب أو أنه قد يحاول تغييره. لكن من المرجح أن يكتشف الرئيس الأميركي المنتخب أنه يخاطر -بتغيير النهج بشكل درامي إلى شروط تفضل روسيا وتبقي الأسد في السلطة- بإغضاب حلفاء الولايات المتحدة، ويعرض للخطر شراكات طويلة الأمد -بما في ذلك مع تركيا ودول خليجية- مع مصالحها الخاصة في سورية.
تعود كل طبقة من طبقات الصراع في نهاية المطاف إلى نقطة الاشتعال الأصيلة في العام 2011، عندما رسمت مجموعة من المراهقين كتابات مناهضة للحكومة على جدران عامة في درعا، البلدة القصية في جنوبي سورية، في انعكاس لروح الربيع العربي الملهمة -ولو أنها قصيرة العمر. وأفضى اعتقالهم إلى إشعال فتيل احتجاجات شعبية ما لبثت أن شملت البلد كله. وولد الرد القمعي للنظام منذ ذلك الحين طيفاً كاملاً من المعارضة التي لم يكن من السهل احتواؤها أو تحييدها، حتى باستخدام قوة النار الهائلة. ولا يمكن حل أي من الحروب السورية العديدة من دون التوصل إلى تسوية سياسية بين المجتمعات الأكثر تنويعاً عرقياً ودينياً في الشرق الأوسط.
قال لي مسؤول أميركي: “من دون انتقال سياسي في سورية، لن يتوقف القتال. ومن دون انتقال سياسي لا توجد أي طريقة للقضاء على ‘داعش’”.
حذر المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، الشريف زيد رعد الحسين يوم الثلاثاء من أن “سحق” الحكومة لحلب ربما يشجع النظام فقط على تكرار الاستراتيجية نفسها -بما في ذلك الذبح البشع للرجال والنساء والأطفال- في أماكن أخرى في سورية، وخاصة في محافظة إدلب وفي دوما بالقرب من دمشق، وعاصمة “داعش” في الرقة. وحتى لو تم التوصل إلى نوع من السلام في نهاية المطاف، فإنه سيكون سلاماً هشاً في ضوء العداوات السياسية واليأس الإنساني اللذين أفرزهما هذا الصراع. وفي الأثناء، دُمرت الأراضي ذات التاريخ الإنجيلي. وسوف يكون هناك القليل مما يتبقى من سورية، مادياً، ليعود شعبها إليه -ليس بيئة تعرض الكثير من الأمل لتحقيق مصالحة حقيقية.
روبن راين
صحيفة الغد