في أوكرانيا
بعد محادثاتٍ صعبة وشديدة التعقيد، صادق قادة المنظومة الأوروبية في بروكسل على ضمّ أوكرانيا إلى معاهدة التجارة الحرّة. وجاء في خلاصة الاتفاقية، الصادرة في 15 ديسمبر/ كانون الأول 2016، ولا تعني الاتفاقية، بأيّ حالٍ، ترشيح أوكرانيا للانضمام للاتحاد الأوروبي، ولا تعني كذلك وعدًا بضمّها في المستقبل أيضًا، ما يعتبر إشارة سيّئةً للغاية تجاه كييف، أخذًا بالاعتبار أنّ مجرّد بدء المحادثات لضمّ أوكرانيا لمعاهدة التجارة الحرّة، وإمكانية
ترشّحها للانضمام للاتحاد الأوروبي، أدّى إلى تدخّل روسيا العسكري في شرق أوكرانيا، وضمّ شبه جزيرة القرم. ليس هذا فحسب، بل يؤكد الموقف الأوروبي عدم وجود أيّة توجّهات عملية لتقديم مزيد من الدعم المالي لأوكرانيا، أو تقديم ضماناتٍ أمنيةٍ ووعود بالتدخّل العسكري، لضمان (وحماية) سيادة أوكرانيا على كامل حدودها، ما راق لروسيا التي باتت على قناعةٍ بعدم وجود أيّ تهديدات أو عوائق أمام سياستها الخارجية العدائية.
جاءت هذه النصوص الرافضة دعم أوكرانيا، نتيجة إصرار هولندا التي عقدت استفتاءً شعبيًا مع بداية عام 2016 ضدّ انضمام أوكرانيا للمنظومة، وصوّت ضدّ مشروع دعم أوكرانيا وضمها نحو 18% من الناشطين (لم تتجاوز نسبة المشاركين في التصويت 32% فقط)، وعلى الرغم من أنّ النتيجة ليست ملزمةً للحكومة الهولندية، لانخفاض نسبة المشاركين، إلا أنّ الحكومة الهولندية ترغب بإرضاء الفئة الرافضة، واتّخذت موقفًا حاسمًا أدّى إلى النتائج المذكورة أعلاه. ومع ذلك، سمحت بروكسل لمواطني أوكرانيا بالسفر إلى دول المنظومة من دون تأشيرة دخول، واستثناء حملة جوازات السفر الروسية. وحاولت هولندا جاهدةً للحيلولة دون توقيع معاهدة التجارة الحرّة مع أوكرانيا، إلا أنّ بروكسل تمكّنت من تمرير معاهدةٍ مشروطةٍ في الوقت الراهن.
كما نرى، فإنّ معظم المحادثات التي شغلت زعماء الدول الأوروبية، أخيراً، تناولت الأزمة الأوكرانية، وتردّي العلاقات المشتركة مع روسيا، ما أدّى إلى اتخاذ قرار أوروبي بتمديد العقوبات الاقتصادية ضدّ موسكو ستّة أشهر أخرى من العام 2017، لعدم التزامها بالشروط الواردة في اتفاقية مينسك، ووقف العمليات العسكرية في شرق أوكرانيا.
تزامنًا مع ذلك، أعلن السكرتير العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، ينس ستولتنبرغ، عن عقد الاجتماع الثالث لمجلس “ناتو – روسيا” خلال عام 2016، لمناقشة الأزمة الأوكرانية، حسب “رويترز”. وقد صرح ستولتنبرغ أنّ هناك ضرورة قصوى لاستمرار المحادثات الثنائية المباشرة مع روسيا، مع ارتفاع معدّل التوتّر والصراع. وقد أعرب الممثل الروسي في الحلف، ألكسندر غروشكو، عن قلق بلاده بشأن خطط الحلف لعام 2017، لرفع وجوده العسكري في دول البلطيق وبولندا. تجدر الإشارة إلى أنّ “الناتو” أوقف أوجه التعاون مع روسيا إثر ضمّها شبه جزيرة القرم عام 2014، ليجدّد الحلف هذه المحادثات مع بداية عام 2016.
في سورية
لم تتمكّن المنظومة الأوروبية من تبنّي خطوات جادّة تجاه الأزمة الإنسانية في سورية، وخصوصاً المجازر البشعة التي يرتكبها النظام السوري وحليفته إيران والمليشيات العراقية والقصف الوحشي الروسي لمدينة حلب، سوى الاستنكار والإدانة، كما حال الأنظمة العربية في أحسن الأحوال. واكتفت بروكسل بحثّ التحالف الذي يستهدف المعارضين من دون إيلاء أي اكتراث بالمدنيين في حلب، وضمان خروجهم الآمن من المدينة، والسماح للأطقم الطبية بدخول الطرف الشرقي من المدينة، لتقديم المساعدة للجرحى والمصابين. وقد اكتفى رئيس المجلس الأوروبي، دونالد توسك، وهو الذي يعتبر بمثابة رئيس الاتحاد الأوروبي، بالقول بعد انتهاء أعمال القمّة، أخيراً، “ما قدمناه لا يرقى إلى ما نرغب بتقديمه”. الآلية الوحيدة الممكنة في المرحلة المقبلة هي الإبقاء على الحصار والعقوبات الاقتصادية ضدّ روسيا التي باتت غير مجديةٍ، بل ومرفوضة من العديد من رؤساء الدول الأوروبية وزعمائها.
وعلى الرغم من أنّ حلف شمال الأطلسي (الناتو) لم يتدخّل، بصورة مباشرة، في الصراع العسكري فوق الأراضي السورية، واستفادة روسيا، إلى حدّ كبير، من التردّد الأميركي في هذا الصراع، متذرّعة بمواجهة الإرهاب، لتقصف كلّ من فكّر أو يفكّر بمعارضة الرئيس بشار الأسد، ما أدّى إلى تدمير البنى التحتية لمدن عديدة، ولأماكن وجود المعارضة، والقيام بمجازر شنيعة.
أخيراً، وبعد ورود أخبار مؤكّدة عن وقوع خسائر جسيمة في الأرواح في مدينة حلب، صرّح السكرتير العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتنبرغ، وحسب وكالة “Sputnik” فإن الحلف سيتحفّظ عن التدخّل العسكري في سورية. ويرى ستولتنبرغ أنّ القيام بعمليات عسكرية في سورية سيؤثّر سلباً على الأوضاع في البلاد، وأضاف “نرى حجم الكارثة الإنسانية في سورية. لكن، أحيانًا، تكون فوائد الوقوف على الحياد أكبر من التدخّل العسكري المباشر، ونتّفق على أنّ تدخّل حلف الناتو العسكري سيزيد من حجم الكارثة”. بهذا، يعلن حلف شمال الأطلسي عن إفساح المجال، وترك الساحة مفتوحةً لروسيا، لتصول وتجول في سورية.
من المقرّر، كذلك إرسال نحو 1600 دبّابة إلى هولندا، حسب إكسبرس، بهدف رفع وجود قوات حلف شمال الأطلسي في أوروبا، بما يزيد عن القوّة العسكرية التي كانت موجودة في الإقليم في ذروة الحرب الباردة. وترغب الولايات المتّحدة الأميركية، من خلال ذلك، بردع أيّة محاولات روسية للتوسّع، أو القيام بعمليات عسكرية في الإقليم، وستخزّن الدبابات في قاعدة عسكرية قرب قرية إيجلسهوفن الهولندية. كما صادق الكونغرس الأميركي على تقديم 2.7 مليار دولار لدعم وجود “الناتو” في أوروبا. ومن المتوقّع تأسيس مزيد من المخازن العسكرية، لتكديس الذخيرة والآليات في ألمانيا وبلجيكا وبولندا. وهناك توتّر على حدود دول البلطيق والوجود القويّ لحلف الناتو في هذا الإقليم، سيؤخذ، من دون شكّ، بالاعتبار، قبل إقدام روسيا على القيام بعمليات عسكرية خاطفة هناك.
تباين في الموقف الفرنسي
يبدو موقف رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق، فرانسوا فيون، الفائز في الانتخابات الأولية لليمين التقليدي، والمرشّح للفوز في انتخابات الرئاسة الفرنسية في عام 2017، قريباً من الكرملين، فلا يرى فيون أنّ موسكو تشكّل تهديدًا لفرنسا وأوروبا، ويصرّح بضرورة أنّ يكون الكرملين شريكًا في تطوّرات الملف السوري، ويطالب كذلك برفع العقوبات الاقتصادية ضدّ موسكو.
وقد رحب الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بالطبع بفوز فيون في الجولة الأولى من الانتخابات الفرنسية، وذكّر بالعلاقات الطيّبة التي تربطه بالأخير. وتربط فيون ببوتين علاقات صداقة جيّدة منذ سنوات، وغالبًا ما يقوم فيون بزيارات عمل للمشاركة في المنتديات التي تنظّمها موسكو، ولن يتوانى بوتين لحظة عن اهتبال الفرصة لرفع العقوبات المفروضة ضدّ بلاده، بدعم من حلفائه وأصدقائه الأوروبيين. من جهة أخرى، يخاطر فيون بتأليب المعارضين، واتهامه بالضعف السياسي أمام موسكو، لعلاقته المميزة مع بوتين، في وقتٍ تعارض فيه فرنسا، وتُدين التدخّل العسكري الروسي السافر في سورية. وقد أوضح وزير الخارجية الفرنسية، جان مارك إيرلوت، في هذا السياق، عن ضرورة الإبقاء على المحادثات بصورة متواصلة مع روسيا، مع استمرار الحصار الاقتصادي ضدّها، وهذا هو جوهر القضية. وتهدف المحادثات إلى رفع الحصار الذي فرض، ليس اعتباطاً، ولكن للضغط على روسيا، للالتزام بالاتفاقيات الدولية، ولا توجد طريقة أخرى للتعامل مع الأحداث المتفجّرة في أوكرانيا وسورية سوى هذا المبدأ. وقد انتقد ألن جوبيه، المنافس القويّ لفيون في الانتخابات الأوليّة في فرنسا، الأخير لتعامله الليبرالي المتسامح مع بوتين. أمّا زعيمة اليمين المتطرّفة، مارين لوبين، والمنافس القويّ لفيون في الانتخابات النهائية للعام المقبل، فهي كذلك تتبنّى مواقف قريبة من روسيا، ويعارض الاثنان بشدّة انضمام جورجيا وأوكرانيا إلى حلف الناتو، لكنّ لوبين تميل إلى دعم انضمام دول البلطيق إلى الحلف.
وربما يكون وزير الخارجية، إيرلوت، الوحيد بين السياسيين الفرنسيين الذي اتّخذ موقفًا حازمًا بشأن التدخّل الروسي، واتهم موسكو بالكذب المتواصل بشأن مواجهتها الإرهاب في سورية،
وهي التي سمحت لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بدخول تدمر مجدّدًا. وقد أعرب عن خيبة الأمل لفشل المحادثات الروسية الأميركية لحلّ الأزمة السورية، وقال إنّ روسيا مصرّة على مواصلة النفاق والكذب، بشأن كلّ ما يحدث فوق الأراضي السورية.
حلب وانهيار الإنسانية
طاولت الأزمة الإنسانية في حلب مئات آلاف من المواطنين، حسب بيانات الأمم المتحدة الذين حرموا من المساعدات الطبية والإنسانية، والقدرة على مواجهة وتائر القتال، قبل اقتحام قوات الجيش السوري المدينة وبعده، مع نهاية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2016. ووصف المتحدّث باسم مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، يانس لاركيه، الأحداث التي شهدتها حلب في الأسبوع الأول من شهر ديسمبر/ كانون الأول الجاري بأنّها “انهيار كامل للمعايير والقيم الإنسانية”، وأفادت المنظمة الأممية عن ورود معلوماتٍ تفيد بأنّ الجيش السوري وحلفائه قد نفّذوا أحكام إعدام رميًا بالرصاص بحقّ مواطنين عديدين في القسم الشرقي من المدينة في الشوارع في أثناء محاولتهم الهرب من المدينة.
التيارات السياسية في اليمين واليسار الأوروبي متناقضة في مواقفها، ولا توجد سياسة موحّدة تفرض مسارًا سياسيًا خارجيًا، وقد تعارض أحزاب سياسية المواقف الروسية، وتطالب بمزيد من العقوبات ضدّ موسكو. لكن، مع تسارع وتائر الانتخابات وسقوط الحكومات المبكّر في دول عديدة، قبل استيفاء ولاياتها، نجد المواقف قابلةً للتغيير تباعًا لمصلحة موسكو. جدير بالذكر أنّ الأخيرة تمتلك رؤية واضحة وسياسة خارجية، لا تقبل الجدل تجاه أوكرانيا وسورية، وتعرف جيّدًا كيف تدافع عن مصالحها الخاصّة، بشتّى الوسائل الممكنة، على الصعيدين، العسكري والدبلوماسي، وبادرت موسكو، كما هو معروف، إلى إرسال المقاتلات والآليات العسكرية إلى الإقليم، ولم تتردّد لحظة في تدمير الأهداف المعارضة لسياستها الاستراتيجية في سورية، كما استخدمت حقّ الفيتو في مجلس الأمن ضدّ أيّ مشروع لإدانة النظام السوري.
ليس من المتوقّع تعديل الموقف الأوروبي على الصعيد الاستراتيجي الخارجي، ويصعب المراهنة على موقفٍ كهذا، لعدم امتلاك المنظومة عوامل فعلية حقيقية، قادرة على ممارسة ضغوط مباشرة ضدّ موسكو وسياستها في أوكرانيا وسورية، باستثناء العقوبات الاقتصادية التي باتت غير قادرة عمليًا على تحقيق أيّ أهداف استراتيجية، من دون الاستهانة بأثرها الاقتصادي.