تزامنًا مع عمليات تهجير أهالي حلب بعد حصار دام أربعة أشهر من قبل روسيا والنظام السوري والميليشيات الطائفية المدعومة من النظام الإيراني ، بثت مواقع إيرانية صورًا جديدة لقاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، أثناء قيامه بجولة في أحد الأحياء المتبقية من مدينة حلب التي تحولت إلى ركام، نتيجة همجية المعتدين الإيرانيين والميليشيات الشيعية الإرهابية التابعة لها. وظهر سليماني مع قائد محور قلعة حلب في قوات النظام السوري، العقيد إياد سلوم، ونشر موقع «خط تماس» المقرب من النظام صورًا عدة للجنرال الإيراني، قال إنها خلال جولة في محور القلعة الأثرية. من يتجول في حلب اليوم، فليس الرئيس “المعلن” لهيئة أركان “الجيش العربي السوري”، أو أي ضابط من هذا الجيش؛ بل قاسم سليماني، الذي يحرص على بث الصور لاستعراضاته. وهي صور كان يُفترض أن تكون مسيئة أساساً، وقبل أي طرف آخر، لـ”الرئيس” السوري. لكن النظام الايراني يعلم، كما الجميع، أن “ما لجرح بميت إيلام”.
وأثار قيام قاسم سليماني بتمشيط منطقة حلب الشرقية، لمتابعة سير الأحداث في المناطق الجديدة التي سيطرت عليها قوات الحرس الثوري الإيراني في حلب، والذي يعد الظهور الثاني له خلال شهر كانون الأول/ ديسمبر، التساؤلات حول دور سليماني والحرس الثوري في حلب، وما دلالة ظهوره في هذا التوقيت لاسيما بعد أن كشف في 20 كانون الأول/دسيمبر الحالي أمين مجلس الأمن القومي في النظام الإيراني علي شمخاني عن وجود ما سماه مقرا عسكريا وأمنيا مشتركا بين النظام الإيراني وروسيا في سوريا، وأوضح شمخاني أن إيران وروسيا تقدمان من خلال المركز المشترك كل ما يتعلق بالاستشارات العسكرية والأمنية لجيش النظام السوري وحلفائه، مضيفا أن المركز يلعب دورا بارزا في الحرب على “الإرهاب”” في كل من سوريا والعراق. ويكشف هذا التصريح طبيعة الدور العسكري المتعدد الأبعاد للنظام الإيراني في سوريا، و من جانبب آخر ينهي ذلك التصريح هزلية التصريحات الإيرانية السابقة التي ترى دورها في سوريا لا يتعدى الاستشارة العسكرية يقدمها للنظام السوري.
ليست صدفة أن يكون قاسم سليماني أول متفقّدي الركام الذي ترقص فوقه عناصر ميليشياته، بل أراد الجنرال الإيراني أن يوقّع «انتصاره» بقدميه، كما فعل مراراً في العراق. كثيرون تذكروا صورة آرييل شارون في بيروت خلال اجتياح لبنان قبل أربعة وثلاثين عاماً، إذ رأوا تحدّياً متماثلاً في الحدثَين، الإسرائيلي غازياً في عاصمة عربية، والإيراني معربداً في حلب بعد دمشق. جاء سليماني للتصوّر في قلعة حلب فيما كانت طهران تقيم الاحتفالات بـ «أولى الفتوحات». ما الذي أراده الإيرانيون؟ مواجهة «المؤامرة الكونية» أم محاربة التكــفيريين، كما ادّعوا ويدّعون؟ ما حصل في حلب كان بإرادة الروس وبموافقات متفاوتة من دونالد ترامب وبنيامين نتانياهو.
لم تكن معركة حلب ضد «المؤامرة» ولا ضد الارهاب بل كانت معركة لزرع كل الأحقاد التي يمكن أن تنتج العنف المتطرّف المقبل. الواقع أن ما أراده الإيرانيون من خلال ظهور قاسم سليماني في مدينة حلب هو تسجيل أول واقعة سقوط مدينة «سنّية» وأول انتصار خالص في الحرب الشيعية – السنّية، الدائرة بالأحـــرى مـــن جانـــب واحد، إذ لم يتبنَّ السنّة هــذه الحرب ولم يرغبوا في خـــوضها بل رفضوها ويرفضونها، في حين أن النظام الإيراني استثمر فيها الكثير وما انفكّ يدفع الشيعة اينما كانوا الى استعداء الســـنّة بثقافة عدائية بات واضحاً بعد حلـــب أنها تحلل قتلهم، قالنظام الإيراني مُصر على الحرب والعرب مصرّون على المسالمة، لكن المحارب يخوض حربه وينتصر ويعيث فساداً. وقد أظهر وجود قاسم سليماني في الوقت الذي أقدم «إرهابيون أجانب موالون للنظام السوري» (كما باتت التسمية الدولية للميليشيات الإيرانية) على قتل أربعة عشر مدنياً، مدى استهتار القادة الإيرانيين بأخلاقيات القتال، اذ لم يعد هناك فارق بينهم وبين «شبّيحة» النظام. أن ظهور قاسم سليماني، يتجول بشوارع حلب المنكوبة بعد خروج أهلها، يعكس حجم النفوذ والتدخل الإيراني في المحرقة الإنسانية التي تم ارتكابها في حلب. وتعكس تحركات سليماني مستوى الاستهتار الإيراني بالعالم العربي الذي لا تزال وسائل إعلامه تخشى من تعرية وجه النظام الايراني الدموي والمذهبي القبيح، بحجة عدم إثارة النزاعات المذهبية والطائفية.
والملفت إن وجود قاسم سليماني في حلب تسبّب بحماسٍ اميركي مفاجئ ومتأخر لإثارة قضيّته في مجلس الأمن، إذ قال الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكية جون كيربي، إنّ بلاده تعتزم طرح مسألة وجود الجنرال الإيراني قاسم سليماني، قائد ما يعرف بـ”فيلق القدس”، في محافظة حلب السورية على مجلس الأمن الدولي. وجاءت تصريحات كيربي هذه في مؤتمره الصحفي اليومي بمقر الخارجية الأمريكية في واشنطن، الاثنين الماضي، حيث دعا النظام الإيراني إلى تبني موقف واضح من الأزمة السورية، وأكد أنّ عليها الاختيار بين السعي لحل الأزمة السورية أو الإسهام في متابعة تعقيدها. وليس مؤكداً أن واشنطن ستفعل، لأنها سبق أن باركت الدور الإيراني في سورية ولم تعترض عليه إطلاقاً. كما أنه لم تعارض ذلك الدور في العراق. وإن أرادت أن تفعل شيء ما في مجلس الأمن هل روسيا حليف النظام الإيراني سيمح لها بذلك وهل أوروبا ستغلب الاعتبارات الانسانية والأخلاقية على حساب علاقاتها الاقتصادية المستقبلية مع النظام الايراني في اصدار أي قرار من مجلس الأمن ضد قاسم سليماني عصا ذلك النظام في المشرق العربي؟
ولماذا تذهب الولايات المتحدة الأمريكية إلى مجلس الأمن لمعاقبة قاسم سليماني؟ فإذا كانت جادة بمعاقبته ما عليها إلا تطبيق قرار الأمم المتحدة رقم 1747 في آب/ أغسطس 2012، إذ أدرج اسمه ضمن قائمة الأشخاص المفروض عليهم الحصار بسبب تزويد النظام السوري بالأسلحة من النظام الايراني وكذلك التدخل العسكري ميدانيا ولوجستيا وماديا. وعلينا أن ندرك جيدا إذا حقاً عوقب هذا الرجل ليس لجهة ما اقترف أو ما اقترفته مليشياته من جرائم إنسانية في سوريا وإنما لإضرارها بمصالح الولايات المتحدة الأمريكية هناك، فظهوره من عدمه مرتبط بمدى تأثيره السلبي على مصالحها سواء في عهد الإدارة الأمريكية الحالية”أوباما” أو المقبلة”ترمب”، ومن وجهة نظرنا لا تتعلق المشكلة بظهور هذا الشخص وإنما المشكلة تكمن في سياسات نظامه في بلادنا.
إن أبرز مضامين الرسالة الإيرانية، بزيارات سليماني لحلب (والأنبار في العراق) -كما تصريحات كثير من المسؤولين الإيرانيين الآخرين- هو ذاك المضمون غير المعلن أبداً؛ والمتمثل في إهانة الشعوب العربية. أما الهدف المرجح من وراء ذلك، فهو دفع جزء من هذه الشعوب إلى مزيد من التطرف، أو أقلها مجرد خلق انطباع إقليمي وعالمي بوجود هذا التطرف، بما يعبد الطريق لسيناريو إيراني إقليمي غير مستبعد أبداً، يقوم على نشر مزيد من الاضطراب في المنطقة خصوصاً، وبالنتيجة مزيداً من التدخلات الإيرانية بكل تبعاتها المدمرة.
إذ ليس سراً اختراق الجماعات الإرهابية من أجهزة استخبارية عدة. وأكثر انفضاحاً علاقة إيران والأسد بـ”داعش”، كما اتفاق السلام بين نظام الملالي و”القاعدة” مقابل التجاء عدد من قادة التنظيم إلى إيران عقب الحرب الأميركية على أفغانستان. ويمكن أن نضيف إلى ذلك حقيقتا أن إيران كانت أكبر المستفيدين من ظهور “داعش” في العراق وسورية، والوحيدة التي نجت من عمليات التنظيم حتى الآن (وهما ما يُفترض أن تكفيا، وفق منطق “عروبيي طهران” ونظرية المؤامرة الكونية، للاستدلال على أن “داعش” صناعة إيرانية).
سبق وقلنا أن أعظم هدية قدمت للنظام الإيراني قيام الولايات المتحدة الأمريكية باحتلال العراق، وأن أعظم هدية قدمها تنظيم داعش للنظام الإيراني هو ظهور قاسم سليماني في عدة مدن في دول العربية كسوريا والعراق كمحارب للإرهاب. فمن خلال ظهوره في العراق وسوربا يبعث رسالة للعالم الغربي بأننا معكم في صف واحد في محاربة إرهاب تنظيم داعش ،إذ يعد النظام الايراني هو المستفيد الأول من ظهوره المريب لغاية الان.
خلاصة القول أن ظهور قاسم سليماني في حلب هي رسالة فقط للتأكيد إلى الدول العربية بأن النظام الإيراني لا يزال يتعامل معها من منطلق “الثوري” وليس منطلق الدولة، فالأول يتصدره سليماني ومليشياته المنتشرة في العراق وسوريا واليمن ولبنان، الذي يعمل على زعزعة استقرار الدول العربية وتفكيك نسيجها الاجتماعي وخاصة في المشرق العربي، أن قاسم سليماني، الذي اعتبره محللون ووسائل إعلام أهم شخصية أمنية في الشرق الأوسط، حسب الصحفي ديكستر فيلكينز فإن سليماني “عندما يظهر في العلن، لا يظهر إلا في احتفالات المحاربين القدماء، أو لمقابلة مرشد الثورة الإيرانية”. وهو شخص هادئ نادرًا ما يعلو صوته، إنه ذلك الرجل الذي “عندما يدخل غرفة بها عدد من الناس، يذهب فيجلس وحيدًا في ركن الغرفة، لا يتكلم، لا يعلق، فقط يجلس ويستمع”. فهو بالنسبة للإعلام الغربي الرجل الغامض والصامت دومًا. وبالنسبة للنظام الإيراني هو مهندس مشروعها التوسعي في المشرق العربي. أما إيران “الدولة” فيضطلع بهذا الدور الرئيس الإيراني حسن روحاني ووزير خارجيته جواد ظريف لاتمام الصفقات مع الدول الغربية.
وحدة الدراسات الايرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية