على الرغم من كل التطمينات التي صدرت على لسان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب للكيان الصهيوني سواء أثناء حملته الانتخابية أو في أعقاب إعلان فوزه، فإن «الإسرائيليين»، كعادتهم، يشعرون بالقلق وحريصون على ترويض الإدارة الجديدة قبل أن تبدأ. ضمن هذا الاهتمام انقسم «الإسرائيليون» بين متفائلين بتصريحات الرئيس المنتخب وخاصة تعهده بأنه لن يفرض شيئاً على «إسرائيل». وهنا كانت الأنظار تتجه مباشرة إلى مطلبين، الأول، أنه لا قيود على مشروع الاستيطان الذي كانت ترفضه، أو على الأقل تتحفظ عليه إدارة باراك أوباما، على أمل أن يؤدي قبول الإدارة الجديدة لمشروع الاستيطان إلى إصدار تشريع ضم الضفة الغربية إلى الكيان، تتويجاً لجهود مضنية يشرف عليها مكتب رئيس الوزراء من خلال نائبة وزير الخارجية تسيبي حوطوبيلي وبمشاركة وزيرة العدل اييلت سكيدر العقل المدبر لإصدار مشروع قانون «تسوية البؤر الاستيطانية». أما المطلب الثاني فهو فرض خيار التفاوض الثنائي المباشر «الإسرائيلي» – الفلسطيني كأساس لأي تسوية، ورفض أي أطر أخرى للتفاوض تشارك فيها أطراف أخرى، والمقصود هنا بالتحديد الأمم المتحدة وقراراتها الصادرة بدعم الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
الهدف الأساسي من هذين المطلبين هو تصفية «خيار حل الدولتين» نهائياً، وفرض «خيار الدولة اليهودية» على كل فلسطين، والتعامل مع العرب سكان الضفة الغربية كأقلية قومية داخل الدولة اليهودية، والتجاهل التام لقطاع غزة ضمن أية ترتيبات تخص العلاقات «الإسرائيلية» – الفلسطينية.
وإذا كان المؤتمر الديبلوماسي لصحيفة «جيروزاليم بوست» هذا العام الذي عقد في القدس المحتلة قد كشف نقاط خلاف أساسية بين أقطاب الحكومة «الإسرائيلية» حول المداخل الأهم لتحقيق المكاسب، فإن العقل الاستراتيجي «الإسرائيلي» أجمع على مطلب استراتيجي أكثر أهمية وهو التأسيس لنظام إقليمي شرق أوسطي جديد قائم على الاستقطاب الإقليمي تكون فيه «إسرائيل» هي الدولة القائدة والمسيطرة، انطلاقاً من قناعة بأن الصراع المتفجر الآن داخل العديد من الدول العربية وخاصة في سوريا والعراق وليبيا واليمن ينبئ بمآلات تقسيمية لهذه الدول على أسس عرقية وطائفية، وهذه هي «الفرصة» التاريخية ل«إسرائيل» لفرض هذا الخيار، وهذا هو التحدي الأساسي مع إدارة دونالد ترامب.
الخلافات التي ظهرت في مؤتمر صحيفة «جيروزاليم بوست» تخدم هذا التوجه، لأنها تهيئ فرص الانقضاض «الإسرائيلي» عن مسار تحقيق الأهداف الاستراتيجية التي كانت مستحيلة. كان هذا المشروع الإقليمي هو جوهر رؤية نتنياهو في ذلك المؤتمر حيث أوضح أنه «بالوسع تحقيق حل مع الفلسطينيين عبر الدول العربية» فرهان نتنياهو على أن «إسرائيل» إذا نجحت في تأسيس ما تسميه ب «محور الاعتدال» مع دول عربية وتركيا في مواجهة إيران ومحورها سيكون بمقدورها إنهاء أي صراع أو خلاف حول فلسطين. أما مداخلات وزير الخارجية افيغدور ليبرمان ووزير التعليم رئيس حزب «البيت اليهودي» اليميني نفتالي بينيت فكانت تتمحور حول كيفية «ترويض» إدارة ترامب. ليبرمان طالب «بسياسة تحقق نجاحات مع الإدارة الأمريكية وتفادي الإخفاقات السابقة مع إدارة أوباما»، أما تركيز نفتالي بينيت فكان بوضوح شديد «حول إبعاد ترامب نهائياً عن خيار حل الدولتين».
هذا التوجه هو البداية لدفع إدارة ترامب للقبول بخيار «الدولة اليهودية» أولاً، ثم الدخول معه في شراكة أمريكية – «إسرائيلية» لتأسيس النظام الإقليمي الجديد. فالحكومة «الإسرائيلية» وعلى رأسها نتنياهو تريد الحصول من ترامب على اعتماد أمريكي «لإسرائيل» كقيادة إقليمية للشرق الأوسط، أي التزام الإدارة الجديدة بالرؤية «الإسرائيلية» لإعادة ترسيم خرائط التحالفات والصراعات في الشرق الأوسط خاصة تحجيم التحالف الإيراني – الروسي في سوريا، ومنع إيران من أن تكون قوة فاعلة في إدارة سوريا الجديدة.
وكان السؤال المباشر بهذا الخصوص هو كيف يمكن إبعاد ترامب عن خيار حل الدولتين، والأخذ به نحو خيار «الدولة اليهودية» القائدة؟
من هنا جاء ميل نتنياهو للأخذ بنصائح عاموس يدلين رئيس معهد الأبحاث القومي الذي ينصح بالتوصل إلى تفاهم حول النقاط المهمة لإعادة العلاقات الخاصة وتعزيز التحالف الاستراتيجي بين البلدين والبحث في الملفات المهمة خاصة ملف السياسة الإقليمية لإيران، وفي مقدمته الملف الإيراني – السوري، خصوصاً وأن ترامب يرغب في علاقة جيدة مع الروس، وضرورة الاتفاق مع الإدارة الأمريكية الجديدة على مبدأ عدم منح الشرعية للمشروع النووي الإيراني، والعودة إلى التنسيق الاستخباراتي الكامل بين البلدين لكشف الخروق الإيرانية والاتفاق على قيام الولايات المتحدة بمنح «إسرائيل» كل القدرات العسكرية للعمل إذا تم استنفاد كل الوسائل الأخرى.
هكذا يفكر «الإسرائيليون»، ويتربصون لإدارة ترامب من خلال إعداد ملفاتهم الاستراتيجية بعيداً عن أية مجالات هامشية قد تؤدي بهذه الإدارة إلى توريط «إسرائيل» في مقترحات تتعارض مع أهدافهم العليا.
د.محمد السعيد إدريس
صحيفة الخليج