خالد القشطيني – صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
يصادف هذا اليوم يوم الكريسماس، وما نظمه الشاعر العراقي حافظ جميل من قصيدة تشبيبًا بفتاة مسيحية في لبنان، لا بد أن أعود لما ورد عن الحب والمحبة المتبادلة بين المسلمين والمسيحيين في عالمنا العربي. إن من أكثر الأشعار المُغنّاة التي نسجوا حولها الأساطير والحكايات، كانت قصيدة (يا راهب الدير) لشاعر مغمور. انتشرت بين مغنيّات العصر العباسي، غنّتها مؤنسة جارية بنت المهدي كما تذكر الروايات، ووجدنا لها ليلة في (ألف ليلة وليلة)، وغنّاها المصريون، وأنشدها أهل الشام، واشتهر في مقامها العراقيون وأولهم شيخ المقامات محمد القبانجي.
قائل هذه الأبيات بتواتر الأخبار، جندي مسلم جاء من مصر أيام الخلافة العباسية وسكن (عقد النصارى)، حي المسيحيين في وسط بغداد. وكان الحي مثالاً للتفاهم والتعايش بين الطوائف. كان فيه عدد من الكنائس والأديرة المتصلة بالمساجد الإسلامية وأيضًا الكنس اليهودية. اشتهرت فيه منارة سوق الغزل، أعلى منارة في بغداد. وبعد مجيئه إلى العراق، اعتاد الأب انستاس ماري الكرملي على إقامة مجلس الدير عصر كل يوم جمعة وأصبح ملتقى للمثقفين والعلماء. اعترف الشيخ جلال الحنفي أنه تعلم هناك أسس النحو العربي من الأب الكرملي الذي أطلق عليه ذلك اللقب (الحنفي). وكان من الرواد المداومين على هذا الديوان الشاعر والعلامة اليهودي مير بصري.
كان أن وقع ذلك الجندي المصري بحب فتاة نصرانية من بنات الحارة. اقتضى عليه أن يعود لبلده، فحنّ وبكى وشبك شعره على رأسه وهتف سائلا راهب الدير: (يا راهب الدير، هل مرّت بك الإبلُ؟) ثمّ تحسّر على ذلك الفراق: (يا حادي العيس عرّج كي أودّعهم / يا حادي العيس في ترحالك الأجلُ) وقد آلمه العشق وأودى بعقله وحياته!
وعندما غنّى القبانجي هذا المقام وأغنية «يا نصارى إش صار بيكم/ ما تضيفون اللي يجيكم؟»، تقدم صحافي مسيحي ببلاغ يتهمه بالطائفية أيام لم يعرف العراق معنى الطائفية. وكان أن اجتمع المسيحيون وكتبوا بلاغًا بأسمائهم وقدّموه للمحكمة يعلنون وقوفهم مع المغني. وجاء شهود منه شهدوا ببراءة الأغنية وشيوع الحب البريء بين المسلمين والنصارى. وبعد أن أطلقت المحكمة سراح المغني، شاء أن يردّ لهم التحيّة بأحسن منها، فغنى: (أنا مغرم بالنصارى)؛ اعترافًا بالجميل.
وحدث أن مرّ الشيخ محمد سعيد الحبوبي، وهو بركان هادر من الشعر، فاستهوته فتاة من عقد النصارى، فاستوحى منها أحلى قصائد المناجاة قائلاً:
فلو رأتك النصارى في كنائسها/ مُصوّرا ربّعت فيك الأقانيما
هكذا كان هو العراق منارة للثقافة والعلوم والتعايش الطائفي بين الملل والنحل بما يثير في نفسي مشاعر القرف مما يجري الآن من تقاتل وتفرقة وإرهاب اضطر الكثير من المسيحيين والإزيديين والصابئة إلى ترك البلد5 والهجرة إلى أوروبا التي كان أهلها في القرون الوسطى يحسدون المسلمين في المشرق على تعايشهم واستقرارهم.