بغداد- منذ ظهور المسيحية ارتبطت وارتبط بها شعب العراق. لم يفكر المسيحيون العراقيون يوما رغم ما مرّ بهم على امتداد ألفي عام، بأنه سيأتي عهد لن تقرع فيه أجراس كنائس نينوى في عيد الميلاد، وسيكونون أقلية مهددة في أرضها وحياتها، مخيّرة إما بالهجرة وإما الإرهاب.
هذا هو حال المسيحيين في العراق اليوم، والذي يلخصه المطران مار يوحنا بطرس موشي، راعي أبرشية الموصل وكركوك وإقليم كردستان للسريان الكاثوليك، بقوله “يؤلمني أن أقول إنني أريد أن أترك العراق. بلدي، تراثي وتاريخي هناك، الأرض مروية بدماء أجدادي. ومع ذلك، إذا كنت لا أستطيع العيش هنا في كنف الكرامة والأمن لا بد لي من البحث عن مكان آخر. أين؟ لا أعرف؟”. الحيرة والألم اللذان يظهران في كلام المطران يوحنا بطرس موشي، ينضح بهما حديث العديد من المسيحيين العراقيين، الذين هجّرهم تنظيم الدولة الإسلامية من مناطقهم؛ ولكنهم اليوم ورغم استعادة القوات الحكومية العراقية لهذه المناطق، فإنهم لا يعلمون حقا إن كانوا يرغبون في العودة هناك حيث الكنائس مهدمة والحياة محطمة.
لقد هاجمونا من قبل وسوف يهاجموننا مرة أخرى. وعندما يأتون لمهاجمتنا نحن المسيحيين في المرة القادمة، لن يكون ذلك تحت اسم داعش، بل سيكون هناك اسم مختلف
إعادة بناء ما تم تحطيمه
سلط تقرير لشبكة الأنباء الإنسانية “إيرين” الضوء على هذه المعضلة التي يعيشها اليوم المسيحيون العراقيون، من خلال أحاديث أجرتها توم ويستكوت، عشية عيد الميلاد مع مجموعة من المسيحيين العراقيين الذي هربوا من الموصل وبرطلة وقرقوش. وفي برطلة، وهي قرية ذات أغلبية مسيحية في الضواحي الشرقية لمدينة الموصل، يسير اثنان من رجال الشرطة العسكرية على الأقدام داخل مذبح كنيسة مهدّمة يكسو الدخان الأسود جدرانها ومقاعدها المحطمة. وتدفق المئات من المسيحيين العراقيين إلى بلدة برطلة التي استعيدت من تنظيم داعش في الآونة الأخيرة وذلك للاحتفال بعيد الميلاد لأول مرة منذ 2013.
وقال الرقيب مايكل بولس، أحد الجنود المسيحيين الوحيدين في وحدة الشرطة العسكرية العراقية المسؤولة عن تأمين القرية، “عندما دخلت هذه الكنيسة لأول مرة بعد التحرير، شعرت بسعادة عارمة لا يمكن وصفها. كانت حقا مثل فرحة عيد الميلاد ورأس السنة الجديدة معا بالنسبة إلينا. لدي ألم عميق في قلبي بسبب ما حدث هنا، ولكنني أعتقد أننا نستطيع إعادة بناء ما تم تحطيمه”.
وكان تنظيم الدولة الإسلامية قد استولى على برطلة في منتصف العام 2014. واضطر سكانها وغالبيتهم من المسيحيين (ما يقدر بنحو 70 بالمئة من عدد سكانها البالغ حوالي 20.000 نسمة) إلى الفرار. وانتابت المتشددين حالة من الهياج شملت تدمير التماثيل وقطع رؤوسها وحرق الكنائس ونهب المقابر وتفتيش الجثث المتربة بحثا عن خواتم الزفاف أو القلادات الذهبية، وتدمير أي منازل يعرفون أنها مملوكة لمسيحيين.
ويتحدث بولس متذكرا “كنا من بين آخر الناس الذين رحلوا، ولكننا كنا نعتقد دائما أننا لن نعود. نحن سكان هذه الأرض ونعيش هنا منذ قرون. كنا نعيش جنبا إلى جنب في سلام، ولكن هذا اختفى بعد ظهور التطرف الإسلامي. طلب منّا تنظيم الدولة الإسلامية أن نغير عقيدتنا أو نرحل، لكننا لم ولن نفعل ذلك”. ويقول إنه وزميله ميلاد سعد، المسيحي الآخر الذي يشتغل في برطلة، أصرا على التمركز هناك نظرا لأهمية الحفاظ على الوجود المسيحي في المدينة.
فقدان الإحساس بالأمان في الوطن
وبعد استعادة المدينة من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية، قام أعضاء من قوات حماية سهل نينوى، وهي ميليشيا مسيحية شاركت في المعركة، بصنع صليب مؤقت تم وضعه على قمة إحدى الكنائس المحلية. وعلى الرغم من هذه الرمزية المظفرة، يقول بولس إن العديد من المدنيين يعرفون أن منازلهم دُمّرت أو زُرعت فيها الشراك الخداعية، ويخشون من أنهم لن يستطيعوا العودة إليها.
وأضاف “إنهم لا يستطيعون أن يروا مستقبلا لهم هنا بعد الآن، وهم خائفون بطبيعة الحال”. لكن بولس عازم على تغيير هذا التصور، فـ”من المهم جدا بالنسبة إلينا أن نكون هنا لمساعدة أفراد مجتمعنا الذين يزوروننا لكي يشعروا بالراحة والثقة”. ومكّنت استعادة المناطق المسيحية بعض الناس من زيارة منازلهم ومتاجرهم المهدمة وأراضيهم، ولكن نظرا لعدم تطهير معظم المناطق من المتفجرات التي خلفتها الحرب، فإن العودة الدائمة ليست واقعية حتى الآن.
وجعلت ممارسات تنظيم الدولة الإسلامية الكثير من المسيحيين النازحين في العراق يتشككون في جيرانهم السابقين من المسلمين، حيث لم يعد وجود قوات أمن مسيحية في المنطقة يمثل ضمانة كافية لسلامتهم في المستقبل تجعلهم يفكرون في العودة. وتقول نعمة، وهي طبيبة أسنان تبلغ من العمر 26 عاما وتعيش حاليا في أربيل، “لن نعود. إن العيش هناك بين المسلمين ليس مأمونا وأنا لم أعد أثق بهم”. وتضيف “لقد هاجمونا من قبل، وسوف يهاجموننا مرة أخرى. وعندما يأتون لمهاجمتنا نحن المسيحيين في المرة القادمة، لن يكون ذلك تحت اسم تنظيم الدولة الإسلامية، بل سيكون هناك باسم مختلف. كان تنظيم القاعدة من قبل، ثم تنظيم الدولة الإسلامية، وفي المرة القادمة سيكون اسما مختلفا، ولكنه دائما نفس الشيء”.
عمار، أيضا، لا يرغب في العودة إلى الموصول، حيث يقول بمرارة “لقد فقدنا كل شيء، وليس لنا أي مستقبل ينتظرنا كمسيحيين في العراق. إنني أفكر في الموت، وأعتقد أنه سيكون أفضل من هذا الواقع”. ويتذكر الرجل البالغ من العمر 47 عاما، وهو أب لثلاثة أطفال، إحدى الليالي من شهر أغسطس 2014 عندما وضع أسرته في سيارة بعد 24 ساعة من استيلاء تنظيم الدولة الإسلامية على المدينة، وهرب إلى جيب عينكاوة في أربيل، حيث لجأ أكثر من 50 ألف مسيحي مثله.
وقال “قاموا بتفتيشنا عند حاجز أمني تابع لتنظيم الدولة الإسلامية وأخذوا كل شيء، حتى أقراط بناتي. شعرت زوجتي بالرعب من أن يأخذوا بناتنا ولم أستطع التوقف عن الارتعاش، حتى بعد مرورنا. وعندما وصلنا إلى أربيل، لم تكن معنا سوى السيارة وهاتفي المحمول، الذي كنت قد خبأته في جوربي”. وتعرضت زوجة عمار لصدمة شديدة وأُصيبت بسكتة دماغية بعد بضعة أشهر، ولا تزال تعاني من شلل جزئي، والدواء الوحيد الذي يستطيع أن يشتريه لها هو الباراسيتامول.
وقال عمار، وهو ينقر أصابعه على طاولة مقهى في أربيل، “في الموصل، كان لدي كل شيء: عمل تجاري ناجح، صنع يافطات للمحلات التجارية، ومنزل وسيارتان وورشة. تم تدمير كل شيء الآن. لقد فقدت كل شيء في لحظة واحدة بهذه السهولة”. ومن المرجح أن تمر عدة أشهر قبل استعادة الموصل نفسها، ولكن في الفترة التي سبقت الهجوم على المدينة، سيطرت القوات المسلحة العراقية على العديد من المناطق النائية التي كانت في السابق تخضع لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية، بما في ذلك العديد من البلدات المسيحية.
البابا فرنسيس: هناك شهداء مسيحيون اليوم أكثر من القرون الأولى
الفاتيكان- أشاد البابا فرنسيس بمسيحيي الشرق الأوسط الذين تشبثوا بدينهم خلال اضطهاد متشددي تنظيم داعش لهم قائلا إن هناك شهداء مسيحيين الآن أكثر من السنوات الأولى للكنيسة. وتحدث البابا للآلاف من الأشخاص في ساحة القديس بطرس في عظته بمناسبة عيد القديس إسطفانوس، أول شهيد في المسيحية.
وتناول البابا اضطهاد المسيحيين في العراق الذين تمكن الكثير منهم من قضاء أول عيد ميلاد لهم منذ 2013 في الكنائس بعد استعادة بلدات ومدن من الدولة الإسلامية. وقال “اليوم نريد أن نفكر فيهم وأن نكون قريبا منهم بمحبتنا وصلواتنا بل وبدموعنا”.
وقال البابا الذي استنكر مفهوم القتل باسم الرب “هناك شهداء مسيحيون اليوم أكثر من القرون الأولى”. ووجه تنظيم الدولة الإسلامية إنذارا للمسيحيين في المناطق التي يسيطر عليها في شمال العراق وخيرهم بين دفع الجزية أو اعتناق الإسلام أو الموت بالسيف. وفر معظمهم إلى إقليم كردستان شبه المستقل إلى الشرق.
ووصف زعماء الكنائس المختلفة ومنها الكنيسة القبطية في مصر والتي قطعت رؤوس بعض من أتباعها وفجرت كنائس تابعة لها حقيقة مقتل مسيحيين من كافة الطوائف في الشرق الأوسط بأنها وحدة الدم.
ومع ذلك، لا توجد أشياء كثيرة يستطيع رجال الدين وأفراد رعيتهم السابقون أن يعودوا إليها؛ فقد ألحق مقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية دمارا واسع النطاق بلا رحمة. ودنسوا الكنائس ونهبوا المقابر وأحرقوا المنازل. ولا يزال الكثير من مسيحيي العراق المنكوبين، الذين يتراوح عددهم بين 300 ألف و400 ألف، أي بانخفاض من 1.3 مليون قبل ألفي عام، يخشون حتى التفكير في العودة إلى ديارهم. تشعر نعمة بالقلق من أن الوضع بالنسبة إلى الأقليات الأقل حجما في العراق مستمر في التدهور. ومثل الكثير من الآخرين، تقول نعمة إن أسرتها لم تعد ترى أي مستقبل للمسيحيين في العراق وتأمل في فرصة لطلب اللجوء في أوروبا.
فقدان الأمل
منذ استعادة المدينة، زار بعض أقارب نعمة قرقوش، ولكن فقط لتفقد الأضرار ومعرفة ما إذا كان هناك أي شيء يمكن إنقاذه. وتقول جدتها سارة البالغة من العمر 82 عاما إنها وجدت أن منازل عائلتها الخمسة قد نهبت وأضرمت النيران في أربعة منها. “لقد رحلنا فجأة، ولم نتمكن من أخذ أي شيء معنا. عدت مع ابني لرؤية الأضرار والبحث عن ملابسي التقليدية، ولكن حتى هذه لم أجدها. لقد اختفى كل شيء”.
وقدّرت مؤسسات مسيحية أن نحو 25 بالمئة من نازحي سهل نينوى هاجروا خارج البلاد. وأن 75 بالمئة من النازحين في بعض المخيمات في إقليم كردستان قدموا طلبات لجوء إلى أوروبا وينتظرون الموافقات الرسمية للهجرة. وغادر ما يقرب من ثلث سكان قرقوش، الذين يبلغ عددهم قرابة 50 ألف نسمة، العراق منذ العام 2014 وطلبوا اللجوء إلى بلدان أخرى، وفقا للأب جورج جاهولا، وهو قس من البلدة. فر بعضهم إلى دول مجاورة، لبنان والأردن وتركيا، ولكن البعض الآخر ذهب إلى دول بعيدة مثل كندا وأستراليا.
وتمت استعادة قرقوش، التي تقع على بعد 30 كيلومترا جنوب شرق الموصل في مطلع شهر أكتوبر الماضي. وتقول القوات المحلية التي تتولى تأمينها إنها تأمل بأن يبدأ الناس في العودة في شهر يناير. وقال الأب جورج جاهولا “حتى بعد التحرير، نشاهد الآن مدى الدمار، ولا أعتقد أنهم سوف يعودون،”، مشيرا إلى أن هذا الأمر كان بمثابة تهديد وجودي للمسيحيين في العراق.
ويعترف بولس، الشرطي الذي يسهر على تأمين برطلة، بأن أولئك الذين لا يزالون في البلاد يخشون المزيد من الاضطهاد، وأن ما يرونه على أنه خيانات سابقة من قبل الجيران المسلمين يجعل إعادة بناء الثقة أمرا صعبا. ولكنه يؤكد قائلا “نحن لا نريد هجرة. نريد أن نبقى في أرضنا، وينبغي أن يكون هذا هو حقنا الأساسي. لكننا بحاجة إلى أن نكون قادرين على منح شعبنا وضعا ومستقبلا آمنا. هذا أمر ضروري للغاية”.
لكن المسيحيين ليسوا الوحيدين الذين لا يستطيعون العودة إلى ديارهم أو يعانون من النسيان في مرحلة ما بعد تنظيم الدولة الإسلامية. وتتركز المخاوف أيضا في أوساط المسلمين السنّة، الذين يشكلون غالبية (3 ملايين نازح في العراق). يعيش الكثير منهم تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية ويشعرون الآن بأن اللوم يوجه إليهم ظلما على علل البلاد وأنهم مبعدون عن منازلهم.
العرب اللندنية