تدخل أزمة تشكيل الحكومة في المغرب شهرها الثالث دون أن تلوح تباشير في الأفق عن رفع هذا “البلوكاج” (العرقلة) السياسي، والسماح بولادة الحكومة الحادية والثلاثين في تاريخ البلاد مند الاستقلال السياسي.
وكثر الحديث طوال هذه المدة عن المخارج الشرعية وغير الشرعية -حتى لا نقول الاستبدادية- للخروج من المأزق السياسي في ظل صمت النص الدستوري عن تقديم الجواب. واتجاه مؤسسات البلاد نحو الشلل التام جراءها، فحكومة تصريف الأعمال لا تملك من الصلاحيات الشيء الكثير، والبرلمان في عطالة تامة حتى إشعار آخر، والإدارة شبه متوقفة عن العمل سوى من تدابير الحد الأدنى.
تعميق النظر في هذا الوضع يواجهنا بسؤالين كبيرين؛ الأول يرتبط بالتأويلات الممكنة لهذا “البلوكاج” السياسي؛ إذ كيف يعقل أن يصدق من يعي أبجديات السياسة في المغرب أن ما يجري مجرد أزمة سياسية عادية بين فرقاء سياسيين، بسبب تباين في المرجعيات الأيديولوجية أو اختلاف في البرامج الحزبية أو تقدير الرؤى السياسية، لمواجهة مشاكل دولةٍ القاعدةُ فيها تدبير الندرة في كل شيء؛ فالمؤشرات والأرقام الصادرة مؤخرا في تقارير المندوبية السامية للتخطيط (الهيئة المختصة بالإحصاء) لا تبشر بخير مطلقا.
أما السؤال الثاني، فيتعلق بالآثار المترتبة عن هذه الأزمة التي أضحت مدار حديث عموم المغاربة بعدما طال زمن الانتظار، خاصة أن المؤشرات الموجودة على الخريطة السياسية عقب إعلان النتائج ترجح سهولة تشكيل الحكومة، إما من الرباعي الحزبي المنتهية ولايته أو العودة لأحزاب النسخة الأولى من الحكومة؛ أي إبدال حزب التجمع الوطني للأحرار بحزب الاستقلال.
تأويلات أزمة الحكومة
تعددت التأويلات المقدَّمة في معرض تحليل ما يعيشه المغرب منذ شهرين وزيادة؛ ما بين قول يرد الأمر إلى صراع حزبي وتنافس بين القوى السياسية، كامتداد للاستقطاب السياسي الحاد الذي شهدته البلاد قبيل الانتخابات. وبين رأي مضاد يحمل قيادة العدالة والتنمية المسؤولية، فهي التي اختارت التعالي عن قاعدة السياسة فن الممكن؛ وكأنها لا تعرف حيثيات الواقع السياسي المغربي.
غير أن طول أمد الأزمة أظهر للجميع يقينا أنها تتجاوز الصراع الحزبي العابر؛ الذي عادة ما يرتبط بمصالح “سياسوية” ضيقة لها علاقة بالحقائب الوزارية وتوزيع المسؤولية… وما إلى ذلك، مما يفترض أن يسبق كل مفاوضات حكومية إلى ما هو أكبر من هذه القراءة السطحية البسيطة. وبذلك تتجاوز الأزمة تلك الاختزالية المخِلة لاحتمالات أخرى أهمها:
أولا: سوء الفهم بين الملكية والإسلاميين؛ إذ رغم الانضباط الملكي للفصل 47 من دستور 2011؛ الذي نص على أنه يعين رئيس الحكومة من الحزب السياسي المتصدر لانتخابات أعضاء مجلس النواب، بعد الإعلان عن نتائج اقتراع 7 أكتوبر/تشرين الأول الفائت، فإن هذه الفرضية لم تسقط من التأويلات التي تقدَّم لفهم ما يجري في الساحة السياسية المغربية.
“طول أمد أزمة تشكيل الحكومة المغربية أظهر للجميع يقينا أنها تتجاوز الصراع الحزبي العابر؛ الذي عادة ما يرتبط بمصالح “سياسوية” ضيقة لها علاقة بالحقائب الوزارية وتوزيع المسؤولية… وما إلى ذلك، مما يفترض أن يسبق كل مفاوضات حكومية إلى ما هو أكبر من هذه القراءة السطحية البسيطة”
يستند أصحاب هذا التأويل إلى سوابق تعضده، من جملتها الغضبة الملكية على عبد الإله بنكيران في الأشهر الأخيرة من عمر حكومته، ثم خطاب داكار بمناسبة الذكرى الـ41 للمسيرة الخضراء الذي كان شديد اللهجة تجاه السياسيين دون أن يفصح؛ فقد كان حمَّال أوجه. وقبله الاستبعاد الضمني لوزراء العدالة والتنمية من لجنة تنظيم “كوب 22” في مدينة مراكش حول المناخ، وأيضا ضمن الوفد المرافق للملك في زيارته لعدد من الدول الأفريقية.
وعلى هذا الأساس يصنف ما يقع الآن ضمن مسلسل سوء الفهم المتكرر بين الملك وحزب العدالة والتنمية، بعد سنوات من التعايش والانسجام كما يبدو ظاهريا على الأقل.
وهو أمر خطير للغاية؛ فأن يصبح طرفا المعادلة هما الملك في مقابل حزب سياسي يحظى بامتداد شعبي أمر يعيد إلى الواجهة أسئلة حرجة لكلا الطرفين، أبرزها مدى قدرة الملكية على التعايش مع كافة الفرقاء في المشهد السياسي؟ وهل عجزت آليات التكيف التي استطاعت بها الملكية استيعاب الجميع لقرون عدة؟ وفي الطرف الآخر، هل فشل الإسلاميون رغم خمس سنوات من التسيير في تقديم الضمانات الكافية للقبول بهم؟
ثانيا: “المخزن” يعيد ضبط المشهد السياسي، فشعار “الإصلاح في ظل الاستقرار” ليس سوى تكتيك من الراسخين في دار “المخزن” لامتصاص حرارة الربيع المغربي، الذي انطلقت شرارته مع حركة 20 فبراير، وهو ما تؤكده بوضوح الأزمة التي يعيشها المغرب، فهذا موعد إغلاق قوس الاستثناء المغربي، وإعادة المياه إلى مجاري السلطوية التي جفت بعد خمس سنوات من الإصلاحات.
إذ كيف لحزب يحصد 125 مقعدا (أي ما يقارب ثلث المقاعد) وانضم إليه حزبا الاستقلال والتقدم والاشتراكية في محاولة بناء ائتلاف حكومي مكون من ثلاثة فرق نيابية تملك نسبة 46% (183 مقعدا) من مقاعد البرلمان، أن يعجز عن إقناع أي حزب من الستة التي تتقاسم مجتمعة نسبة 29% من المقاعد الباقية؟ طبعا مع استثناء حزب الأصالة والمعاصرة الذي يملك وحده نسبة 26%، وكان موقفه واضحا من المشاورات الحكومية حين اختار الاصطفاف في المعارضة.
يظهر أن “المخزن” غير مقتنع بنسبة 5% التي بقيت من نصيبه في حكومة بنكيران القادمة، حتى لا يجد نفسه في موقع الأقلية؛ لذلك سمعنا عن اشتراط زعيم حزب الأحرار على رئيس الحكومة إبعاد حزب الاستقلال إن رغب في مشاركة حزب الحمامة بمعية حزب يختاره هذا الأخير. علما بأن الحزبين معا (الأحرار والاستقلال) كانا معا في تجارب حكومية سابقة دون مشاكل إطلاقا.
لا تفسير أمام هذا سوى محاولة “المخزن” الحصول على تمثيل أكبر في الحكومة الثانية لعبد الإله بنكيران حتى يتمكن من فرض شروطه في البرنامج الحكومي، خصوصا بعدما تبين لحراس النظام السلطوي أن الثلاثي الحزبي في مشروع الائتلاف الحكومي منسجم بدرجة كبيرة، مما يدفع هؤلاء إلى اتخاذ كافة التدابير درءا لأي مفاجأة قد تشكلها ثلاثة أحزاب قوية ومستقلة ومنظمة.
آثار الأزمة القائمة
أكيد أن هذه الأزمة لا يمكن أن تنتهي كما بدأت، لا عند 7,5 ملايين ممن اقتنعوا بالمشاركة في اقتراع 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي أولا، ولا عند عموم المغاربة بدرجة ثانية. فما يجري في الساحة السياسية المغربية من عرقلة يعيد إلى الأذهان آليات زمن غابر ظن المغاربة أنه ولى إلى غير رجعة. لكن لا بد من الإقرار بأن ما يحدث له جوانب إيجابية حتى وإن لم يدرك مهندسوه ذلك.
أولا: لقد فضحت هذه العرقلة -التي تدخل شهرها الثالث- شيئا اسمه المؤسسة الحزبية المستقلة في المغرب، فباستثناء أحزاب تعد على أصابع اليد الواحدة ممن لها سيادة داخلية واستقلالية في القرار، تبقى البقية مجرد دكاكين سياسية ملحقة بمربع السلطوية، تتلقى التعليمات والأوامر، وتتحرك وفق ما يرسم لها سلفا.
“بات من الضروري تغيير النظام الانتخابي المسؤول عن هذه الكوارث التي تهدد الديمقراطية الفتية التي يرعاها المغاربة منذ فبراير/شباط 2011، فنمط الاقتراع يرهن مصير البلاد بأحزاب كرتونية تبخس العمل السياسي وتحتقر إرادة المواطنين. هذا إلى جانب مراجعة اللوائح الانتخابية والتقطيع الترابي للدوائر من أجل ضمان العدالة الانتخابية بين المناطق”
وضع اعتاده المغاربة في أحزاب كان توصف بـ”الإدارية”، لكن الجديد هو التحاق حزب يساري عريق بهذا الصف؛ ويتعلق الأمر بالاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي لن يلومه أحد لو اختار منذ اليوم الأول موقع المعارضة. لكن الظاهر أن الحزب يمعن في اللعب وخلط الأوراق والمساومة والابتزاز، بأساليب بئيسة أبعد ما تكون عن مرجعية ومبادئ حزب حمل لعقود آمال شريحة واسعة من المغاربة.
ثانيا: فتحت هذه السابقة النوعية في تاريخ الحكومات -بما سبقها من صراع مع وزارة الداخلية قبل وأثناء الانتخابات- أعين المغاربة على حجم الإصلاحات التي ينبغي أن تضاف إلى الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية؛ بشكل آني ومستعجل في الولاية الحكومية القادمة.
فقد بات من الضروري تغيير النظام الانتخابي المسؤول عن هذه الكوارث التي تهدد الديمقراطية الفتية التي يرعاها المغاربة منذ فبراير/شباط 2011، فنمط الاقتراع يرهن مصير البلاد بأحزاب كرتونية تبخس العمل السياسي وتحتقر إرادة المواطنين. هذا إلى جانب مراجعة اللوائح الانتخابية والتقطيع الترابي للدوائر من أجل ضمان العدالة الانتخابية بين المناطق. وتبقى المعركة الأهم هي نزع الإشراف من وزارة الداخلية بإقامة مؤسسة وطنية مستقلة للتنظيم والإشراف على الانتخابات.
ثالثا: يساهم النقاش الدائر حاليا في وسائل الإعلام والمقاهي وبين المواطنين -حول هذا “البلوكاج” الفريد من نوعه- بشكل غير مباشر في إذكاء الوعي السياسي لدى المواطن البسيط، الذي بدأ يستوعب تدريجيا هندسة النظام السياسي المعقدة. وبذلك يساهم مدبرو هذه العرقلة من حيث لا يدرون، في كشف المستور عن أدوات عمل نظام سياسي عريق، استطاع بفضل غموضه الصمود طوال عقود.
ما سبق يمكن أن يفضي إلى إحدى نتيجتين، فمن ناحية قد يكون سببا في الاقتناع بلا جدوائية السياسة في نظام معقد وملتبس وهامش التأثير فيه ضعيف جدا، مما يهدد بالعودة إلى زمن الإعلان عن موت السياسة في المغرب (سنة 2007 نموذجا).
وقد يساهم -من ناحية أخرى وبشكل عكسي- في توسيع قاعدة الإسلاميين بتعاطف المواطنين معهم بسبب المظلومية، خاصة أن بنكيران فاجأ الجميع حين اهتدى إلى سلاح الشفافية والوضوح في هذه المعركة، معلنا القطيعة مع الكواليس وأحاديث ما وراء الستار.
أخيرا يجب الاعتراف بأن ما يجري في المغرب -منذ الانتخابات المحلية في السنة الماضية (سبتمبر/أيلول 2015) وانتخابات أكتوبر/تشرين الأول هذه السنة- أكبر بكثير من هذا الضباب والغبار الذي يراد من ورائه حجب الرؤية عن الناس، وخلط الأوراق بحثا عن تسوية يكون ناتجها إعلان كساد عملة الإصلاح، مما يفرض بالضرورة العودة إلى العملة القديمة الرائجة قبل انطلاقة الربيع المغربي في 20 فبراير/شباط 2011.
محمد طيفوري