تعوّد المتابعون عن كثب للسياسات الروسية تجاه سوريا أن تأتي خطوات موسكو مخالفة للتوقعات في العديد من المحطات المفصلية، بدءاً من تناقض مواقفها إزاء الجهود التي بذلت لتسوية الأزمة السورية بوسائل دبلوماسية، وتبنيها قراءات وتفسيرات خاصة لا سيما بخصوص بيان مؤتمر جنيف1 والقرارات الدولية ذات الصلة مثل القرار (2018) والقرار (22544).
ثم تلا ذلك التدخل العسكري في الأزمة السورية، ووصولا إلى معركة حلب التي انتهت مؤخرا بإحكام قبضة النظام السوري على الإحياء الشرقية في المدينة -التي كانت تسيطر عليها فصائل المعارضة المسلحة- وإجلاء كافة المدنيين والمقاتلين منها.
منحى الحراك الدبلوماسي الروسي بعد حسم معركة حلب -كما في مرات سابقة- يؤشر إلى أن موسكو معنية بإعادة توجيه دفة تكتيكاتها المتبعة في عملية “إعادة تموضع” إن صح التعبير، وترافق ذلك مع إبداء الكرملين -في إشارات مضمرة- عدم رضاه عن السلوك الإيراني أثناء معركة حلب وما بعدها، حيث عملت طهران على إظهار أنها هي التي تتحكم في سياق المعركة لأنها الموجودة عملياً على الأرض عبر المليشيات الموالية لها.
فسعت لتخريب اتفاق وقف إطلاق النار وإجلاء المدنيين والمقاتلين من الإحياء المحاصرة، وربطت الاتفاق بإخراج أعداد من بلدتيْ الفوعة وكفريا(الشيعيتين) المحاصرتين من مقاتلي المعارضة المسلحة في ريف محافظة إدلب.
ومن ثم حاولت طهران وضع ثمار الإنجاز العسكري بحلب في سلتها، وأن تنسبه لنفسها بتوظيف دور المليشيات التابعة لها وتضخيمه، وكانت ذروة ذلك الجولة الاستعراضية التي قام بها قاسم سليماني في قلعة حلب. وفي المقابل تهوين الدور العسكري الروسي الذي اعتمد على القصف الجوي بشكل رئيسي لكنه كان العامل الحاسم في المعركة.
توافقات وخلافات
لا شك في أن السلوك الإيراني أزعج الكرملين، وأن تمايز المواقف الروسية عن نظيرتها الإيرانية في الأيام الأخيرة من معركة حلب وما بعدها كشف خلافات جدية بين روسيا وإيران، وجدت موسكو نفسها مضطرة للكشف عن جانب منها علناً وإعطاء انطباع يؤكد أنها بصدد إعادة توجيه دفة التكتيكات والتوجهات السياسية الروسية، لضبط الدور الإيراني في الأزمة السورية ومنع جر روسيا إلى معارك تكون حصيلتها في الكفة الإيرانية، وتتعارض مع الأهداف الإستراتيجية الروسية من وراء تدخلها العسكري في سوريا.
“منحى الحراك الدبلوماسي الروسي بعد حسم معركة حلب -كما في مرات سابقة- يؤشر إلى أن موسكو معنية بإعادة توجيه دفة تكتيكاتها المتبعة في عملية “إعادة تموضع” إن صح التعبير، وترافق ذلك مع إبداء الكرملين -في إشارات مضمرة- عدم رضاه عن السلوك الإيراني أثناء معركة حلب”
إلا أن الحديث عن وجود تباينات مهمة بين المواقف الروسية والإيرانية لم ينطلق بناء على وقائع معركة كسر العظم في حلب ونتائجها، بل سبق المعركة ودفع حينها العديد من المحللين السياسيين إلى استبعاد أن تقدم موسكو على المضي في مثل خيار كهذا حتى النهاية دون أن تضمن عدم خروج طهران عن التفاهمات بين القيادتين الروسية والإيرانية.
وهذا ما يعيدنا إلى التساؤل: هل حقاً أن معركة كسر العظم في حلب ونتائجها في محصلتها كانت في مصلحة موسكو؟ وهل ما زال التحالف بين روسيا وإيران يستند إلى أرضية صلبة من التقاء المصالح لا سيما تجاه الملف السوري؟
لعل الإجابة على السؤالين السابقين تؤكد صحة التحليلات التي ذهبت -قبل معركة حلب- إلى أن تردد موسكو قبيل الانخراط في المعركة يرجع إلى أنها لا تثق بنوايا طهران، وتخشى أن تستغل الأخيرة المعركة في سياق مشروعها الإقليمي تحت راية “ولاية الفقيه” الذي طالما أبدت روسيا أنها لا تتفق معه، بل تدعم إيجاد حل سياسي للأزمة السورية -وكذلك في العراق– تحت سقف دولة علمانية تعددية.
وبصرف النظر عن الاعتراضات المحقة على السياسات الروسية تجاه الملف السوري وتطبيقاتها على الأرض، لا بد من أن يُؤخذ الخلاف بين روسيا وإيران حول مستقبل سوريا بعين الاعتبار كخلاف جوهري في الرؤية الإستراتيجية، مقدر له منطقياً أن يتعمق في المرحلة المقبلة عندما توضع القضية السورية على طريق البحث عن تسوية شاملة.
لكن إلى أن يحين ذلك الوقت وتتوافر الروافع والأسس لإيجاد تسوية، ستظل مساحة التوافق بين المصالح الروسية والإيرانية حافزاً للحفاظ على مستوى متقدم من تنسيق المواقف والعمل المشترك بين الدولتين، يضع في دائرة الشك إمكانية حدوث تغيير جذري في السياسات الروسية تجاه سوريا.
التدخل البري
في هذا السياق؛ يمكن اعتبار نشر كتيبة من الشرطة العسكرية الروسية في الأحياء الشرقية من مدينة حلب إجراءً احترازيا أقدمت عليه موسكو كي تحد من التأثيرات السلبية لممارسات المليشيات التي تمولها وتوجهها طهران.
“سعت روسيا وإيران -من خلال لقاء موسكو الذي عقد في العشرين من الشهر الجاري وضمَّ وزراء خارجية البلدين ونظيرهما التركي- إلى إعطاء انطباع بأنهما تنطلقان من رؤية مشتركة بخصوص سبل معالجة ملفات الأزمة السورية وأن الخلافات بينهما هامشية”
وربما يكون الهدف من هذه الخطوة -من زاوية أخرى- طمأنة أنقرة والتقليل من هواجس المعارضة السورية، نظراً إلى أن القوات التي أرسلت إلى حلب قوات خاصة من الشيشان، ويفسر ذلك عضو الدوما (البرلمان الروسي) ليونيد كالاشنيكوف بقوله: “من بين أسباب إرسال هذه القوات انسجام عناصرها في طبيعة التفكير والتقاليد مع السوريين”.
ورغم أن موسكو درست جيداً -ضمن منطق طريقة تفكير القيادة الروسية- قرار إرسال قوات برية إلى حلب بما في ذلك طبيعة تركيبة تلك القوات، فإن الخطوة كانت مفاجئة وستترتب عليها نتائج مهمة، لأنها تنقل التدخل العسكري الروسي في سوريا من الاكتفاء بالضربات الجوية والصاروخية إلى التدخل بقوات برية.
ويرى محللون روس أن من شأن ذلك ضبط السلوك العسكري الإيراني على الأرض في سوريا، وإعطاء روسيا ورقة مهمة على الصعيد السياسي، تزامناً مع إعلانها أن الفرصة باتت مواتية لإعلان وقف إطلاق نار شامل في سوريا، وعودة ممثلي النظام والمعارضة إلى المفاوضات، واقتراح أن تكون محطتها القادمة في العاصمة الكزاخية أستانا وعلى رأس جدول أعمالها تثبيت وقف إطلاق النار.
اختبار أستانا
سعت روسيا وإيران -من خلال لقاء موسكو الذي عقد في العشرين من الشهر الجاري وضمَّ وزراء خارجية البلدين ونظيرهما التركي- إلى إعطاء انطباع بأنهما تنطلقان من رؤية مشتركة بخصوص سبل معالجة ملفات الأزمة السورية وأن الخلافات بينهما هامشية.
فوفقاً لما هو مفترض في “إعلان موسكو” -الذي صدر عن الاجتماع الثلاثي- فإن ثمة توافقا روسياً إيرانياً تركياً على أن الصراع في سوريا لا يمكن حله بوسائل عسكرية، وعلى ضرورة وقف شامل لإطلاق النار والبدء في مفاوضات سياسية لحل الأزمة السورية، إضافة إلى بند مثير للجدل ينص على أن “الأولوية لمكافحة الإرهاب وليس إسقاط النظام”.
افتراض وجود توافق في البندين الأول والثاني يتناقض مع تصريحات القادة العسكريين الإيرانيين، ومنهم نائب رئيس الحرس الثوري الإيراني العميد حسين سلاميان، الذي اعتبر -في تصريح لوكالة الأنباء الرسمية الإيرانية- أن “استعادة الأحياء الشرقية لحلب هي فتح الفتوحات، هي الخطوة الأولى والفتح المبين…”، وأضاف: “سيتم تحرير الموصل والبحرين واليمن قريباً..”.
بينما يشكل البند الثالث أداة يمكن استخدامها لتقويض أي صيغة تفاوضية تمس بمستقبل الرئيس بشار الأسد أو بنية نظام الحكم القائم، الأمر الذي يتعارض مع تأكيد الرئيس فلاديمير بوتين ووزير خارجيته غير مرة أن المهم بالنسبة لروسيا مصير الدولة السورية وليس مصير الأسد شخصياً.
إلا أن من مصلحة إيران تعميم التوافق مع روسيا في المدى المنظور للاستفادة من مساحة المناورة المتاحة لها على هامش التكتيكات الروسية، حتى تلك التي قد تتعارض مع توجهات صناع القرار في طهران.
الإطار الذي حدده وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف للقاء أستانا أو “المشاورات” على حد وصفه، يحصر النقاش في بحث وقف إطلاق نار شامل بسوريا وآليات تنفيذه، بضمانة ثلاثية روسية وتركية وإيرانية.
وسيحقق ذلك لروسيا مجموعة أهداف دفعة واحدة، منها تأكيد أنها من يمسك بقرار الحرب والسلم في سوريا، وخلط الأوراق على جبهة المعارضة السورية بتنحية الائتلاف الوطني المعارض جانباً، والتعاطي مع من أسماهم لافروف “المعارضة الموجودة على الأرض بما فيها المسلحة”.
وسيؤثر ذلك -بشكل غير مباشر لكن بثقل- على مؤتمر جنيف3 في حال انعقاده، إذا ما نجح لقاء أستانا في سحب البساط من تحت أقدام الهيئة العليا للمفاوضات التابعة للمعارضة والائتلاف الوطني كأكبر قوة سياسية للمعارضة، وكممثل رئيس لها في مؤتمر جنيف.
“تراهن روسيا على تراجع الدور التركي نسبياً جراء تركيز أنقرة على أولوية معركة الباب والتصدي للعمليات الإرهابية في الداخل، كما تعوّل روسيا على تقدير تراخي إدارة الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب في الملف السوري بما يعزز الدور الروسي، فضلاً عن مجموعة من التغيرات المتوقعة في بعض البلدان الأوروبية المحورية”
وتراهن روسيا على تراجع الدور التركي نسبياً جراء تركيز أنقرة على أولوية معركة الباب والتصدي للعمليات الإرهابية في الداخل، كما تعوّل روسيا على تقدير تراخي إدارة الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب في الملف السوري بما يعزز الدور الروسي، فضلاً عن مجموعة من التغيرات المتوقعة في بعض البلدان الأوروبية المحورية، التي ستجري فيها انتخابات رئاسية وتشريعية قد تأتي بأشخاص يشاطرون بوتين رؤيته.
إيران من جانبها لا ريب في أنها مرتاحة حتى الآن للتكتيكات التي أدارت بها موسكو الدعوة للقاء المقرر انعقاده في أستانا الشهر القادم، بيد أنه ليس من مصلحة إيران التوصل إلى وقف إطلاق نار شامل في سوريا، لكنها ليست مستعجلة الإفصاحَ عن حقيقة موقفها.
ذلك أن التوصل لاتفاق إطلاق نار شامل لن يكون سهلاً، وحتى لو تم ذلك سيُلحق به العديد من الشروط الصعبة، مثل اشتراط الفصل بين المعارضة المسلحة و”جبهة فتح الشام” (النصرة سابقاً). ناهيك عن أن مراقبين في العاصمة الروسية لا يخفون خشيتهم من أن إيران تستطيع تفجير أي اتفاق هدنة من خلال المليشيات التابعة لها.
توافقات وتناقضات وملاحظات وشكوك متبادلة، تجعل من الصعب الحكم بشكل قاطع على مواقف موسكو ومبادراتها بعد معركة حلب، والمدى الذي ستذهب إليه في الحد من الاندفاع العسكري الإيراني، لكن يكفي موسكو في المرحلة الراهنة -لإثبات جديتها في تصويب دفة سياساتها المتبعة اتجاه سوريا- أن تدفع للوصول سريعاً إلى وقف إطلاق نار شامل، وألا تضع مشاورات أستانا في مسار يتعارض مع جنيف3.
ولن تكتسب المواقف الروسية ثقة الأطراف الأخرى بأنها تسير على السكة الصحيحة إلا عندما تترجم الأقوال إلى أفعال بانفتاح موسكو على تسوية توافقية للأزمة السورية، وحسب تقديرات محللين سياسيين روس فإن طهران لن تكون طرفاً إيجابياً فيها، وبالتالي لا بد من الاحتكاك معها في مرحلة ما على افتراض أن الإشارات التي تطلقها روسيا جدية، علماً بأن المهلة الزمنية لاختبار جديتها من عدمها قصيرة، وهامش المناورة الممنوح لها ضيق.