ربما يكون وقف إطلاق النار الشامل المعلن الخميس الماضي برعاية موسكو وأنقرة، الاختبار الأكثر أهمية لكيفية إدارة الجوانب التنافسية في العلاقات الروسية الإيرانية في مرحلة جديدة ما زالت الدولتان بحاجة خلالها للتحالف الذي جمعهما في السنوات الأخيرة في سوريا، فهذا النوع من التفاعلات التي يمتزج التحالف فيها بالتنافس يعد الأكثر صعوبة في العلاقات الدولية، ولذلك يتيح هذا الاتفاق فرصة بالغة الأهمية لاختبار الافتراض الذي بدا منطقياً عندما بدأ التدخل العسكري الروسي يحقق ما عجز عنه التوغل الإيراني لدعم نظام الأسد، وهو أن سوريا ستوضع فعلياً تحت ما يشبه وصاية ثنائية، وأن قبضة روسيا عليها ستكون أقوى، فقد أظهرت التطورات السابقة على الاتفاق الأخير ما يبدو أنها نقطة ضعف في هذا الافتراض، وهي أنه لا ينسجم مع معطيات واقعية، أهمها أن إيران هي التي توجد على الأرض، وأن ميليشيات تابعة لها تسيطر على مناطق كاملة.
ورغم أن روسيا حاولت تعويض ضعف وجودها البري، واتفقت مع شركة عسكرية خاصة على العمل في سوريا، وسمحت لها بتوظيف جنود روس أنهوا خدمتهم الرسمية، فلا يزيد عدد هؤلاء على بضعة آلاف، فيما تُقدَّر أعداد الميليشيات الموالية لإيران بأكثر من مائة ألف.
وظهرت أهمية الوجود الكثيف على الأرض في عملية تنفيذ الاتفاق على إجلاء مسلحين ومدنيين من شرق حلب الشهر الماضي، فقد عقدت روسيا هذا الاتفاق بشكل ثنائي مع تركيا في 13 ديسمبر، ورحبت إيران به كما فعلت بشأن اتفاق الهدنة الشاملة.
لكن عندما بدأ تنفيذ اتفاق حلب في الساعات الأولى من 16 ديسمبر، تبين أن من يوجد على الأرض يستطيع التحكم أكثر في مجريات الأمور، فقد أوقفت الميليشيات التابعة لإيران تنفيذ الاتفاق وربطته بإجلاء مواز من بلدتي الفوعة وكفريا (الشيعيتين) اللتين يحاصرهما المسلحون في ريف إدلب، رغم أنه لم يتطرق إلى مثل هذه المقايضة أو غيرها في بنوده الأربعة، إذ نص على خروج المسلحين بأسلحتهم الفردية، وإجلاء المدنيين الراغبين في المغادرة مع ضمان سلامة خروجهم.
المهم هنا أن روسيا كانت قد أعلنت أنها تضمن الاتفاق، وأن «خبراءها» العسكريين يشرفون على تنفيذه، وأنها لن تسمح بأية محاولة لعرقلته مهما كان مصدرها، لكنها وقفت مكتوفة الأيدي عندما عرقلته ميليشيات تابعة لإيران، ولم تلبث أن رضخت لمطالبها، في الوقت الذي أرسل بوتين موفداً خاصاً إلى طهران (ألكسندر لافرينيستيف) للتفاهم حول تعديل الاتفاق، إلى جانب ترتيب اللقاء الثلاثي الذي حضرته تركيا في موسكو في 20 ديسمبر.
وحدث ذلك في وقت ما زالت إيران بحاجة للدور العسكري الروسي في سوريا. ولكن لأن اتفاق حلب كان جزئياً، أصبح اتفاق الهدنة الشاملة هو الاختبار الحقيقي لمدى نفوذ روسيا التي عقدته مع تركيا، وإيران التي رحبت به بطريقة فاترة، كما أنه المؤشر الأهم حتى اليوم لما سيكون عليه ميزان القوى بينهما في سوريا حين ينتهي دور روسيا العسكري الرئيسي، وتعود طائراتها من حيث أتت، ويصبح وجودها محصوراً في قاعدتين في اللاذقية وطرطوس، بينما القوات والميليشيات التابعة لإيران متغلغلة على نطاق أوسع.
فهل تكفي علاقة روسيا القوية بقيادة أركان جيش الأسد وبعض أجهزته الاستخباراتية لتعويض ضعف وجودها على الأرض؟ لقد دفعت روسيا باتجاه إنشاء فيلق جديد (رابع) في هذا الجيش، ولعبت دوراً رئيساً في تكوينه ليصبح أقوى من الفيالق الثلاثة القديمة التي أنهكتها الحرب، لكن ملابسات الإعلان عن فيلق خامس يضم «متطوعين» تُرَّجح أن إيران تقف وراء تأسيسه لكي توازن النفوذ الروسي داخل الجيش السوري.
وتزداد أهمية البحث في كيفية إدارة العلاقات بين موسكو وطهران عندما نتأمل تصريحات رسمية إيرانية قريبة عن إمكان إقامة قواعد بحرية في اليمن أو سوريا (محمد باقري رئيس الأركان في 27 نوفمبر)، أو عن أن إيران هي التي تُحدد مستقبل سوريا (محمد على جعفري قائد الحرس الثوري في 22 أكتوبر).
وإذ يصعب استبعاد افتراض أن تسعى إيران إلى إعادة إنتاج السيناريو العراقي في سوريا، فليس من السهل في الوقت نفسه تصور أن يكرر بوتين أخطاء بوش الابن عندما شن حرب 2003 التي كانت محصلتها النهائية هيمنة إيرانية ودوراً أميركياً ثانوياً في العراق.
وحيد عبدالمجيد
صحيفة الاتحاد