ينشغل العالم هذه الأيام بقدوم الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض ليتولى قيادة الولايات المتحدة لفترة 4 سنوات مقبلة، ويحكم من خلالها العالم في شكل أو في آخر في أجواء من التخبط والتناقضات والصراعات. هذا بالإضافة إلى السباق المجنون لحصد المكاسب وحجز مقاعد تشارك في القرارات المصيرية وسط حال من الفوضى لم يشهد لها العالم مثيلاً منذ زمن طويل.
وكيفما اختلفت التحليلات وتباينت التوقعات من المقربين والأبعدين، فإن العالم في عهد ترامب سيكون مختلفاً جداً عما كان قبله، خصوصاً في السنوات الأخيرة من عهد سلفه باراك أوباما الذي أضاع هيبة الولايات المتحدة وأظهرها بمظهر الدولة الفاشلة والعاجزة عن اتخاذ أي قرار في شأن أي قضية صغيرة أو كبيرة، في وجه هجمة شرسة من القيصر الروسي الذي ابتلع القرم وهدد نصف أوكرانيا ولمَّح إلى إمكان الانقضاض على دول أوروبية صغيرة كانت تدور في الأفق الروسي. وجاء الاستثناء الوحيد الذي أتى متأخراً جداً عبر السماح بتمرير قرار مجلس الأمن الدولي المتعلق بعدم شرعية المستوطنات الاستعمارية الصهيونية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث امتنعت الولايات المتحدة عن التصويت ولم تستخدم « الفيتو»، أي حق النقض، كما كان يجري في الماضي على رغم الصراخ الإسرائيلي والتهديدات الجوفاء وتنديدات ترامب ومحاولاته تجميد البت بالقرار أياماً عدة ليتاح له عرقلته عندما يتسلم زمام الأمور.
وأهمية هذا القرار تكمن في تكريس مبادئ الشرعية الدولية، ولا يلغيه إلا قرار آخر لن يتاح له أن يبصر النور لأسباب معروفة ليضع الجميع، وأولهم ترامب، أمام الأمر الواقع والبحث عن تسوية ضمن حل الدولتين وفق الحدود المنصوص عليها في القرارات الدولية التي لا تعترف بأي تغيير بالإكراه في الضفة الغربية والقدس الشريف.
هذا القرار سيحرج إدارة الرئيس ترامب في وجه بنيامين نتانياهو وحكومته اليمينية المتطرفة وعتاة الصهاينة بعد الوعود التي أعطاها لهم مقابل دعمه بشراسة خلال معركته الرئاسية والسعي بكل الوسائل إلى تحطيم صورة منافسته هيلاري كلينتون، فيما اعتبر بعض المحللين أن أوباما أسدى خدمة مهمة لخلفه بتمرير القرار قبل تسلمه مهامه لتجنيبه الإحراج وتثبيت الموقف الأميركي الرسمي من عدم الاعتراف بشرعية المستعمرات، وسط تساؤل عن مصير قرار ترامب بنقل السفارة الأميركية إلى القدس الشرقية.
أما الشريك الآخر المساهم في إيصاله إلى سدة الرئاسة، فهو بوتين الذي استخدم وسائل التواصل الاجتماعي ووثائق «ويكيليكس» وملفات الإنترنت ضد كلينتون، كما كشف عن اتصالات وتبادل رسائل سرية بينهما إبان المعركة وبعدها للاتفاق على أسس التعاون المستقبلي، وما الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق نار في سورية سوى هدية استباقية من بوتين لتسهيل مهمة ترامب، وبالتالي نزع فتيل التوتر بين البلدين والانطلاق منها إلى ملفات أخرى تعطي زخماً للعهد الجديد وتعزز أواصر الثقة بين الرجلين. ورد أوباما الصاع صاعين لترامب وبوتين بقراره طرد عدد من الديبلوماسيين الروس بدعوى تدخلهم في الانتخابات الأميركية.
إلا أن الأمور لن تكون بهذه السهولة عندما تواجه حسابات حقل وعود الحملات الانتخابية مع حسابات بيدر الحكم ومسؤولية اتخاذ القرارات ومصالح الولايات المتحدة العليا، على رغم كل الوعود البراقة والتمنيات البعيدة من الواقع والمتناقضة مع السياسات العامة الثابتة.
فبالنسبة إلى «الصديق» بوتين، يجمع المحللون والخبراء على أنه سيكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، على ترامب أن يذهب في المسايرة إلى آخر المدى، إلا إذا تراجع الرئيس الروسي عن شراهته وطموحاته وخفف من غلوائه وقدم بعض التنازلات في مختلف المناطق وأولها في القرم وأوكرانيا، ثم في مواقفه الصلبة ضد مشاريع الدرع النووي بعدما هدد بزيادة الموازنة العسكرية وإنتاج صواريخ مضادة للدروع، إضافة إلى توسعه وامتداده إلى الشرق الأوسط، منطقة المصالح الأميركية، وإقامة قاعدة حميميم الجوية وتوسيعها لتصبح دائمة وتوسيع قاعدة طرطوس البحرية على الساحل السوري وحصوله على امتيازات حقول النفط والغاز البحرية وإمساكه بمفتاحي الحرب والسلام في سورية المنكوبة بحرب قذرة منذ ٦ سنوات.
ومن التناقضات الأخرى في مواقف ترامب التي ستشغل العالم خلال فترة عهده، إن أكمله، نذكر على سبيل المثال لا الحصر:
– قضايا الهجرة واللجوء ووعده بطرد ٣ ملايين لاجئ أتوا من المكسيك وغيرها ووعوده بالتضييق على الجاليات المسلمة ومواقفه المعادية لها وللأقليات الأخرى التي تشكل جزءاً من النسيج الأميركي القائم أساساً على تجمعات المهاجرين، بعد إكمال جريمة الإبادة العنصرية للهنود الحمر، السكان الأصليين. ولا يستبعد أن تؤدي هذه السياسة إلى اضطرابات أمنية في شكل حروب أهلية صغيرة بين البيض والسود.
– النجاح الوحيد الذي يمكن أن يحققه ترامب يتمثل بإجراءات اقتصادية وعد بها وتتعلق بالضرائب والاستثمار ودعم المشاريع الصغيرة، إلا أن عزمه عَلى إلغاء قوانين أو تعديلها، مثل الضمان الصحي وغيره، سيؤدي إلى الإخلال بالتوازنات وإثارة مشكلات اجتماعية وسط تشكيك بقدرة الاقتصاد الأميركي على النهوض بسرعة.
– بالنسبة إلى القضايا الخارجية، تشمل التناقضات كل مفصل من مفاصلها، بدءاً من الموقف العدائي تجاه الأمم المتحدة إلى غموض السياسة الخاصة في العلاقات مع أوروبا وتفضيل التعامل معها على أسس إفرادية وليس كاتحاد متكامل. وينطبق هذا الأمر على الحلف الأطلسي (ناتو) ومطالبته بتحميل أوروبا مسؤولية دفع حصصها.
– بالنسبة إلى سورية، ينتظر أن يتعامل ترامب بحذر بعدما وضعه بوتين أمام أمر واقع في الاتفاق الذي جرى التوصل إليه بعد سباق مع الزمن عسكرياً وسياسياً ليرتب الأوضاع قبل أيام من تسلمه مهامه، إضافة إلى تخوفه مما تسرب عن تمرير عدد من الصواريخ المضادة للطائرات إلى المعارضة السورية. ويعترف ترامب بضرورة الحوار مع الروس، لكنه لم يخف العداء لإيران المتورطة في الحرب ودعوته إلى التصدي لها والعمل على إلغاء الاتفاق على ملفها النووي، ما قد يؤدي إلى مواجهة ساخنة قد تحرج الروس، خصوصاً أن لطهران في الميدان قوى وميليشيات شيعية موالية لها، إضافة إلى مسلحي «حزب الله».
– وفي جانب آخر، يتناقض ترامب مع نفسه في قضية العلاقات مع إيران، ومن ثم لإثارة مخاوف دول الخليج في آن وتخصيص السعودية بالذات، مع أنه يعلم حجم معاناتها من الإرهاب، إضافة إلى تعرضها لتهديدات إيرانية مباشرة وعلى حدودها ومن تدخلات متواصلة في مدى أمنها القومي، مثل اليمن، ودعم الحوثيين بالمال والسلاح. فكيف سيتمكن الرئيس العتيد من التوفيق بين الموقفين المتناقضين ومنع تكرار مطالبته دول الخليج بدفع نفقات حمايتها، مع أن القاصي والداني يدرك تماماً أن أميركا لا تدافع عن مصالح أحد، بل عن مصالحها، ولا تفعل ذلك من أجل سواد عيون العرب أو حباً بالخليجيين.
– أما بالنسبة إلى العراق، فالوضع مشابه، إذ يعد ترامب بمواجهة إيران ومنع امتداد نفوذها، وهو يعرف أنها هيمنت بالكامل على كل مفاصل الحياة في العراق بدعم أميركي وسكوت على كل ما يرتكب من انتهاكات لحقوق الإنسان العراقي، من أفعال الحكومة والميليشيات المسلحة التي تضع يدها على مفاتيح البلاد.
ويبدو أن الجشع واضح هنا عندما يتحدث ترامب عن نفط العراق وكأنه حق من الحقوق الشرعية للولايات المتحدة ويكرر القول مرات عدة: «نريد أن نأخذ نفط العراق» ثمناً لتدخلنا في قلب نظام الرئيس صدام حسين كأنه لم يكفه ما سلبوه من أموال النفط العربي وما فرضوه من خوات شراء الأسلحة والمعدات والسلع الأخرى.
والمؤسف أن سلبية العرب لا تعرف حدوداً ودفعتهم إلى الخنوع والتقاعس في المطالبة بأي حق من حقوقهم الشرعية واللجوء للقضاء بالاستناد إلى الوثائق والأحكام الصادرة في بريطانيا والولايات المتحدة، والتي تثبت أن الحرب على العراق كانت غير شرعية، وأن كذبة أسلحة الدمار الشامل انفضحت بعدما تبين أنها غير موجودة أساساً إلا في مخيلة توني بلير وجورج بوش.
كل هذه الوقائع تمنح العراق حق المطالبة بتعويضات تقدر بمئات البلايين من الدولارات جراء سقوط أكثر من مليون قتيل وحل الجيش لأسباب واهية ونهب الثروات وإحداث دمار لا يقدر بثمن.
وقائمة التناقضات طويلة، ومن بينها العلاقة مع الصين ومواقف ترامب المتشددة واتصالاته مع حكومة تايوان، ما أثار نقمة الصينيين والتحذير من اختلال الموازين والإضرار بالأوضاع الاقتصادية العالمية.
إلا أن أكثر التناقضات بروزاً وإثارةً للاهتمام يكمن في التعيينات المتضاربة في قيادات البيت الأبيض والإدارة الجديدة، والتي شملت أبرز صقور الجمهوريين ودعاة الحروب والتوسع وإحياء مشروع «الشرق الأوسط الجديد» جنباً إلى جنب مع حمائم الحزب الحاكم وبينهم أصدقاء شخصيون لبوتين وغيره. أما حصة الأسد، فكانت لإسرائيل التي تعد المنتصر الأول من كل هذه التناقضات والتعيينات.
عرفان نظام الدين
صحيفة الحياة اللندنية