مع إجلاء آخر دفعة من ثوارها المسلحين وعائلاتهم في الشهر الماضي، عادت مدينة حلب السورية مرة أخرى إلى قبضة حكومة الأسد. وكان عدد سكان هذه المدينة قبل الحرب الأهلية السورية أكثر من مليوني شخص. ولم تكن حلب مجرد أكبر مدينة سورية وبيت الطاقة الصناعية للبلد وحسب، وإنما كانت أيضاً مكاناً أيقونياً كأقدم مدن العالم التي تؤوي سكاناً باستمرار، والتي تتوافر على تاريخ يعود وراء إلى حوالي ثمانية آلاف عام. وقبل الحرب، جعلت ثروة حلب من البنايات القديمة ومزيجها العالمي الحضري وأناسها -العرب السنة والشيعة والأكراد والتركمان والشركس والشيشان واليونانيون والأشوريين والمسيحيون الأرمن، وحتى القليل من اليهود- جعل كل ذلك من المدينة مكاناً لا نظير له في الشرق الأوسط الحديث. ويبقى أن نرى ماذا تبقى على قيد الوجود من كل ذلك.
سوف يتواصل القتال والدمار في الأماكن الأخرى في سورية. ولا شك أن الهجوم العسكري المضاد والمتجمع الذي تشنه قوات الحكومة السورية والجيشان الإيراني والروسي، والذي سحق المقاومة في حلب بعد أشهر من القصف، سينتقل قريباً في اتجاه الجنوب الغربي لمحافظة إدلب التي تقع عند حدود تركيا؛ حيث تجمع معظم الذين تم إجلاؤهم من حلب. ويبقى أن يتم غزو “خلافة” مجموعة “داعش” في الرقة، إلى جانب عدة بلدات ومدن سورية أصغر. لكن سقوط حلب يشكل حدثاً بارزاً ومهماً جداً، والذي ربما يؤذن ببداية نهاية الفصائل الثورية المختلفة في سورية، بعد خمسة أعوام ونصف العام من بدء انتفاضتها.
عندما قام ائتلاف فضفاض من الثوار بغزو الضواحي الشرقية من حلب، في تموز (يوليو) من العام 2012، انضممت إلى واحد من الفصائل في مبنى مدرسة كان الثوار قد حولوه إلى قاعدة أمامية. وكانت تلك تجربة مزعجة. بدلاً من مناخ يعكس الانتصار المقبل، وجدت مناخاً يعج بالخوف والشك. في واحد من الفصول الدراسية، كانت نحو دزينتان من الرجال المرتعبين معتقلين كأسرى. وعندما سألت عنهم أبعدني مقاتل قليل الكلام بعيداً عن المكان. وبعد برهة قصيرة، حدث اضطراب عندما أحاط عدة مقاتلين ثوار بأحد رفاقهم واتهموه بأنه جاسوس. وعندما أمسكوا به صاح باهتياج وحاول، عبثاً، الهروب منهم. وقد تغلبوا عليه وساقوه في أحد الممرات. ولم أعرف ماذا كان مصيره.
في محاولة للاقتراب من قلعة المدينة القديمة التي كانت ما تزال في يد القوات الحكومية، تسلقت مع مرافق لي بمشقة سيارة كانت فيها حفنة من الرجال المسلحين، وتوجهنا أعمق إلى داخل المدينة. ومن نظرات عيون الناس الحادة التي مررنا بها في الشارع، بدا واضحاً أنه ليس كل سكان حلب كانوا مسرورين بـ”تحريرهم” من جانب الثوار، وعندما اقتربنا من مركز المدينة، سمعنا أصوات إطلاق الرصاص. وعندما شعرنا بأننا أصبحنا في أرض حرام خطيرة لا تعود لأحد قفلنا عائدين.
وبعد أيام قليلة من مغادرتنا حلب، علمنا أن نفس الثوار الذين كانوا قد استضافونا أعدموا أربعة رجال اتهمومهم بالخيانة. وعرض الثوار شريط فيديو التقط بكاميرا هاتف نقال، والذي ظهر فيه عدة مقاتلين وهم يطلقون مئات العيارات النارية على الرجال الأربعة الذين كانوا قد أوقفوا أمام جدار لساحة مدرسية، في صلية استغرقت خمساً وأربعين ثانية. وكان الجدار مزيناً بصور ضخمة لشخصيات كاريكاتورية، بما فيها ميكي ماوس وسبونج بوب وسكوير بانتس.
في يوم آخر، وفي بلدة كان الثوار يسيطرون عليها تقع على بعد ساعتين إلى الشمال من حلب، حضرت جنازة شاب كان قد اعتقل وقتل على يد عملاء أمن النظام. وأظهرت جثته التي كانت عائلته قد استعادتها عدداً من الجروح المخروقة، وإنما كانت هناك أيضاً عدة فتحات ضخمة، حيث كانت قطع من لحمه مفقودة. وتساءل أحد أقاربه عما إذا كان ذلك قد حدث بواسطة كماشة، كجزء من تعذيبه، بينما كان على قيد الحياة.
بعد أربعة أعوام، كانت نتائج المواجهة الوحشية في حلب كارثية. ثمة مساحات شاسعة من المدينة العظيمة أصبحت الآن أطلالاً، كما لحقت أضرار عصية على التقدير بمعالمها التاريخية والأثرية. وقد لحق الدمار الهائل بأجزاء من القلعة ومئذنة مسجد أمية متعددة الطوابق في المدينة، وأقسام كبيرة من السوق الذي يعود إلى العصور الوسطى، أو لحقت بها أضرار بالغة. ومع ذلك، ربما تمكن استعادة بعض الإرث الفيزيائي للمدينة، لكن المزيج المذهل من الناس الذين جعلوا من حلب ذات مرة مكاناً استثنائياً يبدو أنه اندثر إلى الأبد على الأرجح.
تسبب الصراع في وقوع خسائر فادحة لا يمكن تحملها في الأرواح البشرية. فقد قتل ما يصل إلى حوالي نصف مليون شخص في سورية منذ بدء القلاقل في العام 2011، بما في ذلك آلاف لم يبلغ عنها في حلب وحدها. وهبط العمر المتوقع للسوريين بمعدل عشرين عاماً وزادت معدلات وفيات الأطفال بواقع عشرة بالمائة، وانتشر الفقر وسوء التغذية في عموم البلد. كما شرد ما يقدر بحوالي اثني عشر مليون شخص، بمن فيهم خمسة ملايين تقريباً هربوا من البلد ليتجمعوا في مخيمات اللجوء في تركيا والأردن ولبنان والعراق ومصر، حيث يعتمدون على المساعدات الإنسانية الدولية من أجل الاستدامة. وثمة مليون سوري آخر هربوا أنفسهم إلى أوروبا، ويعيش العديد منهم حيوات غير مستقرة في مراكز الاحتجاز، حيث ينتظرون أمر البت في طلبات اللجوء التي قدموها.
ثمة القليل من الصراعات التي شهدتها العصور الحديثة، والتي اتسمت بمثل قتامة وقدرية أو زعزعة الاستقرار التي سجلها صراع سورية، الذي سيتم الشعور بتداعياته على نطاق واسع لعقود ستأتي. وعلى أولئك الذين نجوا من هوله مباشرة أن يتعايشوا مع الصدمة الناجمة عن الخسائر الشخصية، التي تشتمل على وفيات الأحبة والجروح الجسدية وآلام وإذلال التعذيب، بما في ذلك عبودية الجنس والاغتصاب الجماعي وفقدان المنازل والممتلكات؛ وآثار الصدمة المطولة والخوف الذي يزرعه القصف الجوي غير المتوقف؛ والمجاعة والسجن والهروب والنفي، وهكذا.
بعيداً وراء سورية أيضاً، يحمل عدة ملايين من الناس ذكريات لا تمحى عن الفظاعات المتنوعة للصراع، بفضل وابل من أشرطة الفيديو التي أرسلت على “فيسبوك” و”تويتر” و”يوتيوب”. ويتضمن ذلك صور الإعدامات الجمعية للأسرى بالطلقات النارية والسيوف، وبالإحراق أو الإغراق، وعرض اللحظات الأخيرة للأشخاص غير المحظوظين والمرعوبين الذين يتم الإلقاء بهم من أسطح البنايات أو يرجمون حتى الموت، والأولاد والشباب الذين يتحولون إلى جلادين عديمي الرحمة والشفقة، وآلاف الحالات الأخرى من الرعب. ويعيش العديد منا مع الذكرى المرعبة لوجه الصحفي جيم فولي أو لوجه ستيفن سوتلوف في اللحظات التي سبقت إقدام جلاد مقنع على قطع رأسيهما، ولن نعد أبداً كما كنا بعد ما رأيناه.
كم من الصعب الآن استحضار التفاؤل العام واسع النطاق الذي رافق ربيع العام 2011، عندما كانت سورية مطوقة بالجيشان العاطفي الذي سمي “الربيع العربي”، النابع من حمى ديمقراطية اكتسحت الشرق الأوسط وبدت قوة إيجابية جامحة غير قابلة للوقف. وقد تغير الكثيرمنذئذٍ. فقد تحولت” ثورة” ميدان التحرير إلى عصابات اغتصاب، وتم استبدال الرئيس حسني مبارك بدكتاتورية عسكرية عبودية؛ وأفضت ثورة ليبيا إلى قتل معمر القذافي بشكل وحشي على “يوتيوب”، تاركا وراءه بلداً مدمراً؛ ووسع تنظيم “داعش” وصوله من الحرب الأهلية متعددة الرؤوس ليعيد إشعال الصراع الطائفي في العراق ويشن حملة إرهاب عالمية ما تزال متواصلة.
أما القادة الغربيون الذين ساعدوا “الربيع العربي” ذات مرة وشجعوه كعربة للتغيير الديمقراطي في الشرق الأوسط -يخطر في البال نيكولاس ساركوزي وديفيد كميرون- فإنهم إما ذهبوا من المسرح السياسي، أو أنهم، مثل باراك أوباما، يصنعون خروجهم النهائي. وقد تلخطت سمعة كل واحد من هؤلاء الرجال، بطرق شتى، بفعل القرارات التي اتخذوها فيما يتعلق بالشرق الأوسط خلال وجودهم في السلطة. وقد تراجع أوباما تراجع عن حافة التدخل العسكري بعد استخدام النظام السوري للأسلحة الكيميائية ضد المدنيين في العام 2013، ويخلفه الآن في البيت الأبيض دونالد ترامب.
كان التعثر الثاني الكبير لفن الحكم الأوروبي هو ليبيا، والتي ما تزال منذ الإطاحة بدكتاتورية القذافي في العام 2011 بمساعدة الناتو، منخرطة ومتورطة في الفوضى العارمة التي تعصف بها. وتغرق ليبيا راهناً في قتال أبدي بين أمراء حرب عديدين وميليشياتهم، وقد أصبحت نقطة انطلاق لمجموعة “داعش”، وزعزعت استقرار الكثير من أجزاء شمال إفريقيا. وبالإضافة إلى ذلك، وبفعل مافيات الاتجار بالتهريب التي تنشط هناك بقليل من الضبط، يتجمع المهاجرون المستقبليون راهناً في ليبيا للشروع في رحلات بحرية خطيرة للعبور إلى إيطاليا. وقد مات الآلاف منهم.
بفضل هذه الخطوات الغربية الخاطئة إلى حد كبير، تحول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من كونه لاعباً هامشياً على جوانب الشرق الأوسط، ليصبح وسيط القوة الأكبر فيه. وعندما قصفت القاذفات الروسية آخر مستشفى عامل بيد الثوار في حلب قبل عدة أسابيع، بدا واضحاً أن النهاية أصبحت وشيكة.
من جهته، استغل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان باستمرار الفوضى العارمة السائدة في المنطقة كسبيل لتوسيع سلطته الخاصة. وفي الأثناء، لم يتمكن بشار الأسد من البقاء في الرئاسة وحسب، بل إنه ليس نادماً. ففي تصريح له بمناسبة الاحتفال باستعادة حلب في الأسبوع قبل الماضي، قال “أعتقد بأنه بعد تحرير حلب سوف نقول إنها ليست الحالة السورية فقط، وإنما الحالة الإقليمية والدولية أيضاً باتت مختلفة”.
في الحقيقة، وفيما جاء في جزء منه بسبب الصراع السوري وتداعياته المتواصلة، فإن مستقبل الاتحاد الأوروبي نفسه أصبح راهناً موضع تساؤل. ومع التدفق الجماهيري للاجئين، جاء صعود في المشاعر المعادية للهجرة في أوروبا، والتي تعكس شعور أقصى اليمين الأميركي في تعصبه الديني وكراهيته الطائفية، وخاصة تجاه المسلمين. وأصبح قتل المدنيين -في أوروبا وغيرها (تونس وبنغلاديش ومصر وتركيا)- بأيدي إرهابيين إسلاميين حدثاً متكرراً بصورة مرعبة. وفي عموم الغرب، ينتشر مزاج بشع من رهاب الخوف من الأجانب. وحتى الآن، أعطانا ذلك الخروج البريطاني وفوز ترامب. وفي الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة، هل ستكون مارين لو بان هي المنتصرة؟ هل ستؤذن الهجمة الإرهابية التالية في ألمانيا بنهاية أنجيلا ميركل ودخول مزاج عدم تسامح مجتمعي؟
مع بداية العام الجديد، ثمة العديد من الأسئلة العالقة في الميزان، والتي تقودنا -بشكل ما- عائدين إلى حلب.
لي أندرسون
صحيفة الغد