قال الجنرال الأميركي جون آلن مستشار الرئيس الأميركي ومنسق التحالف الدولي للقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية “إن هجوما بريا واسعا ووشيكا تقوده القوات العراقية بإسناد من قوات التحالف، سيبدأ قريبا ضد تنظيم الدولة”.
وربما أثار تصريح الجنرال آلن تساؤلات جدية حول العملية العسكرية البرية المنتظرة أكثر مما أعطى إجابات عنها، لأن عبارة “تقوده القوات العراقية” ليست عبارة سياسية أو إعلامية بقدر ما تعكس مفهوما عسكريا مهنيا ضيقا جدا. ذلك أن هجوما يُشن بقيادة قوة ما يعني أن هناك قوى أخرى تختلف من حيث الأصناف العسكرية أو من حيث الانتماء الوطني، مما يستدعي تساؤلا محددا: هل هناك قوات تابعة لبلد أو بلدان أخرى ستشارك القوات العراقية التي ستكون في المقدمة؟ وما جنسية هذه القوات؟ أم أن هناك قوات غير نظامية ستتولى مهمة دعم القوات العراقية؟
في حديث لحيدر العبادي بعد وقت قصير من تأديته اليمين الدستورية يوم 9 سبتمبر/أيلول 2014 رئيسا للحكومة العراقية، أكد واحدا من أهم الثوابت الإستراتيجية التي درج عليها التحالف الشيعي الحاكم في العراق، وهو استبعاد أي دور عربي أيا كان حجمه وطابعه في الحرب ضد تنظيم القاعدة ومن بعده الحرب على تنظيم الدولة، وبذلك قطع العبادي الطريق على طيران بعض الدول العربية لشن غارات جوية داخل الأراضي العراقية. ولذلك اقتصر نشاط القوات الجوية العربية على قصف أهداف داخل الأراضي السورية وخاصة عين العرب والرقة.
“أثار تصريح الجنرال آلن تساؤلات جدية حول العملية العسكرية البرية المنتظرة أكثر مما أعطى إجابات عنها، ذلك أن عبارة “تقوده القوات العراقية” تعني أن هناك قوى أخرى تختلف من حيث الأصناف العسكرية أو من حيث الانتماء الوطني”
وعلى الرغم من أن موقف العبادي آنف الذكر لم يواجه ولو بتساؤل عابر من قبل الولايات المتحدة على سبيل المثال، فإنه كان لافتا أن بلدا تشكل التحالف الدولي من أجل تقديم المساعدة له، يرفض بهذه القوة العون العربي الذي يمكن أن يجد تفسيره في بنود معاهدة الدفاع العربي المشترك، في حين يقبل دورا إيرانيا قويا متخطيا كل الموروث السلبي لحرب السنوات الثماني بين العراق وإيران.
ثم إن الدول العربية المنخرطة في التحالف الدولي تعاملت مع رفض العبادي بأريحية لافتة ولم يتحول إلى فقرة على موائد الحوار التي أجراها أثناء زياراته لعدد من دول مجلس التعاون الخليجي التي نظر إليها كثير من المراقبين على أنها العمود الفقري ماليا للتحالف المذكور، بل إن موقف العبادي قوبل بتجاهل لافت من جانب الإعلام الخليجي وكأنه لا يريد إحراج موقف العبادي الجديد في منصبه.
من لم يطق رؤية طائرات حربية عربية تضرب أهدافا تابعة لتنظيم الدولة داخل الأراضي العراقية، مع أن نتائجها تصب في مصلحته، فهل يمكن تصور أنه سيقبل بوجود قوات برية عربية يمكن أن تترتب لها حقوق سياسية من خلال وجودها بقوة السلاح فوق الأرض العراقية، مما قد يكون الخطوة الأولى على طريق تعريب الملف العراقي أو تدويله لصالح المكون السني الذي ظل يرفع شعار المظلومية والتهميش منذ العام 2003؟ ومن المحتمل أن يكون الحضور العربي المسلح سببا في إشاعة أجواء صدام سياسي -على الأقل- مع الدور الإيراني الذي تجذر وجوده منذ زمن ليس بالقصير، مستغلا الغياب العربي الذي عرض حضورا خجولا فوجد صدودا قويا من جانب الحكومة.
ومع أن العبادي أعلن في بداية ولايته الأولى عن حزمة من النوايا الحسنة وخاصة فيما يتعلق بحصر السلاح بيد الحكومة، أي لجم دور المليشيات الشيعية بموازاة الحرب على الإرهاب “السني”، فإن النوايا الطيبة وحدها لا يمكن أن تتحول إلى تقاليد عمل مؤسسي ولا ترسي ثقة فورية لدى الطرف الآخر، فقد لاحظ المراقبون أن العراق شهد في عهد العبادي توسيعا أفقيا متعمدا ولافتا لانتشار المليشيات الشيعية في مناطق شتى من العراق، وخاصة محافظة ديالى وحزام بغداد وأجزاء من محافظة صلاح الدين.
وهاهي اليوم المليشيات تطرق أبواب محافظة الأنبار وتنحر اثنين من أبنائها، وتشهد توسعا عموديا كبيرا في الأدوار المناطة بها وفي كميات السلاح التي تمتلكها وعديد أفرادها من خلال مليشيا الحشد الشعبي التي تشكلت استنادا إلى فتوى الجهاد الكفائي التي أطلقها رجل الدين الشيعي علي السيستاني بحجة حماية المزارات الشيعية من تهديد تنظيم الدولة، وقيل في حينها إن السيستاني أراد منها تحييد الدور الإيراني في العراق عبر ربط هذه الكتلة المسلحة ضمن دائرة نفوذه.
حيدر العبادي الذي تعامل بهذا الحزم مع الدور العربي المفترض في العراق لم يجد غضاضة في الاعتراف بوجود قائد فيلق القدس الإيراني الجنرال قاسم سليماني في البلاد، وقال في كلمة ألقاها أمام مؤتمر الأمن في مدينة ميونيخ الألمانية إن ذلك يأتي ضمن اتفاقية أبرمتها بغداد مع طهران لمواجهة تنظيم الدولة، وأكد أن جميع المستشارين الإيرانيين الذين يأتون إلى العراق هم ضمن هذا الاتفاق الأمني.
غالب الظن أن العبادي كان يحاول انتزاع موافقة دولية على الدور الإيراني العسكري والأمني المتزايد في العراق والذي يتعارض مع قرارات مجلس الأمن السابقة بفرض عقوبات على إيران، مثل قرار 1747 لزيادة الضغط على طهران بشأن برنامجها النووي وبرنامجها الصاروخي، وذلك بمنع التعامل مع أشخاص من ضمنهم الجنرال سليماني نفسه.
من جهة أخرى، هل أصبح الجيش العراقي قادرا على النهوض بالمهام القتالية الكبرى الموكلة إليه؟ وما هو وضع الألوية الاثني عشر التي تحدث الجنرال جون آلن عن استمرار عملية تجهيزها؟ وهل وصلت من حيث التدريب والتسليح إلى مستوى الكفاءة القتالية لتنتقل إلى ساحة المعركة وتخوض حرب تطهير مدن كبيرة مثل مدينة الموصل في حرب شوارع أعد تنظيم الدولة قواته لخوضها من خلال حفر الخنادق وإقامة المتاريس والتحصينات، مما يجعل مهمة قوات مبتدئة مثل الألوية التي تحدث عنها الجنرال آلن في غاية الصعوبة.
ويلاحظ محللون عسكريون مستقلون تركيز المخططين العسكريين الأميركيين والعراقيين وربما الإيرانيين على اختيار الموصل كساحة اختبار أولى لهذه الألوية، وحتى للفرق والألوية الأخرى، وهي المدينة التي فقدت القوات الحكومية فيها يوم 9 يونيو/حزيران الماضي آخر رصيد متبق لها من المعنويات، وهو ما يعد اختبارا قاسيا جدا لو فشل الهجوم في تحقيق أهدافه المرسومة، إذ سينعكس على معنويات المقاتلين أفرادا وجماعات.
لكن ما هي مراهنة حكومة العبادي التي يعلق عليها آماله بتحقيق إنجاز عسكري كبير في الموصل والتي اتخذت رمزيتها الخاصة من كونها المدينة التي أعلن أبو بكر البغدادي نفسه خليفة للمسلمين فيها؟ ربما يكون لوجود قوات البشمركة الكردية التي ارتفعت معنوياتها جراء الانتصارات التي حققتها بدعم من التحالف الدولي في أطراف الموصل وفي معارك سنجار خاصة، لا سيما أنها حصلت على أسلحة حديثة من دول غربية عديدة مثل الولايات المتحدة وكندا وألمانيا وبريطانيا، متخطية موافقة بغداد.
ولهذا باشرت فتح باب التطوع لمقاتلين من الأقلية الإيزيدية ومن المسيحيين، في إطار ما اعتبره مسلمون سنة في محافظة نينوى تحريضا عليهم بأنهم حاضنة تنظيم الدولة. ونجد تفسير هذا السلوك من خلال ما تعرض له سكان عشر قرى عربية لقبيلة الجحيش في محافظة نينوى من عمليات انتقام من مليشيات الإيزيديين أدت إلى مقتل أعداد كبيرة من الرجال والشباب بتهمة انخراطهم في صفوف تنظيم الدولة، كما سجلت انتهاكات بحق نساء بررتها شخصيات إيزيدية بأنهن زوجات لمقاتلين في صفوف التنظيم. وهكذا نرى أن هناك حافزا إضافيا لدى الأطراف الثلاثة في الحرص على استعادة الموصل لأنها محملة بفكرة الانتقام.
فهل كان الجنرال جون آلن يعني هذه التشكيلة من الحلفاء المحليين عندما قال “إن لبلاده شريكا في العراق ولا شريك لها في سوريا في الحرب ضد الإرهاب”، أم أن هناك قوة خارجية لها حساباتها الخاصة وهي الآن على استعداد للزج بقواتها البرية في الحرب؟
إن القوات الحكومية ما تزال تعاني من خلل فادح في التركيبة الوطنية العامة، ومع عدم وجود إحصائيات دقيقة لحجم القوات المسلحة بسبب وجود عشرات الآلاف من الجنود الوهميين “الفضائيين” الذين أعلن حيدر العبادي عن أول دفعة منهم (أكثر من 50 ألف جندي وهمي)، ثم توقف بعد تلك الخطوة مباشرة لحسابات تتعلق بسمعة التحالف الشيعي وائتلاف دولة القانون وحزب الدعوة الذي كان يتزعمه رئيس الوزراء السابق نوري المالكي.
ويتداول محللون مؤشرات تشير إلى أن أكثر من 90% من أفراد الجيش هم من الشيعة، عندما دمج بول بريمر الحاكم المدني الأميركي المليشيات بموجب القرار رقم 91 يوم 7 يونيو/حزيران 2003، وهو الذي حول القاعدة الأساسية للجيش الجديد إلى قاعدة شيعية بعد قراره رقم 2 والمؤرخ يوم 16 مايو/أيار من العام نفسه بحل الجيش العراقي. أما قيادات الجيش فترتفع نسبة الشيعة فيها إلى 97% من مجموع القادة والآمرين.
وقد لا يغير تشكيل 12 لواء جديدا كما أعلن ذلك الجنرال آلن من تركيبة الجيش الحكومي المؤلف من “مليشيات رسمية” يقارب تعدادها مليون عنصر، حتى بافتراض أن جميع أفراد هذه الألوية من العرب السنة، بل ستتحول إلى عامل لابتزاز السنة بسبب حصولهم على هذا “الامتياز”، مع أن هذه الألوية لم تبنَ على أسس مهنية صرفة تجعل منها نواة لجيش وطني مهني اعتمادا على قانون الخدمة العسكرية الإلزامية.
وحتى لو قيل إنها ألوية من المحافظات السنية فإنها في واقع الحال ستقاد بالطريقة التي تؤمن لمليشيا الحشد الشعبي نظام الإدارة والسيطرة، وتحركها لتنفيذ برامج وخطط تلك المليشيات وخاصة في المناطق السنية، بعد تفريغ هذه الألوية من أي مضمون من مضامين اتفاقية الشراكة التي تشكلت بموجبها حكومة العبادي.
إن العملية البرية المنتظرة التي بشر بها الجنرال آلن دون تحديد وجهتها وما إذا كانت تقتصر على الموصل أم ستشمل مناطق أخرى -مع أن آلن قال إن القوات العراقية ستقود الحملة البرية “لاستعادة العراق” وستقوم قوات التحالف بتقديم الإسناد لها- تعتبر معركة فاصلة بكل المقاييس.
إن القاسم المشترك بين جميع التشكيلات التي تتهيأ لمباشرة العملية العسكرية الموسعة، هو الثقل الذي تمثله مليشيا الحشد الشعبي بسبب ثقة الطرف الحكومي بها وما تحصل عليه من دعم إيراني وسط صمت أميركي، ولكن تحضيرات الهجوم على الموصل تأخذ بعدا خطيرا أكثر من المناطق الأخرى، ذلك أن أربعة مكونات شكلت لها مليشيات مسلحة في محافظة نينوى، من بينها قوات البشمركة التي يتعامل معها الأكراد كقوة نظامية وليس كمليشيا ويعد وجودها تصعيدا لعوامل النزاع وإضافة للبعد القومي إليه، وهناك المليشيا الإيزيدية التي أسستها البشمركة الكردية لتكون ذراعها في المناطق التي يطلق عليها اسم “المناطق المتنازع عليها”، كما تم الإعلان عن استكمال تشكيل كتيبة مسيحية مستعدة لخوض معركة استعادة الموصل من يد تنظيم الدولة.
ومع كل هذا الحشد العسكري تقف القوات الحكومية ومليشياتها وبعض المتطوعين من الصحوات الجديدة في حالة ترقب، ظانة أنها ستقود المعركة وتفرض رؤيتها على مسرح العمليات، رغم معرفتنا الأكيدة بأن أحدا لا يستطيع افتراض قيام حوار ديمقراطي بين دبابة وأخرى أو بين بندقية وبندقية، خاصة إذا التهبت المنطقة بنيران القتال من كل الجهات، فكل طرف يريد تحقيق النصر بأي ثمن، مع أن الشجاعة مهما بلغت لن تصنع نصرا لوحدها.
إذا بدأت معركة الموصل فسيتكرر ما حصل لمدينة عين العرب السورية ولكن على نطاق أوسع، سواء في طول أمد المعارك أو في حجم الدمار الذي سيلحق بالمدينة أو في حركة نزوح استثنائية من المدينة إلى مناطق أكثر أمنا، وربما سيحصل الأمر نفسه في تكريت وإن بدرجة أقل. ولكن يبقى ملف الأنبار موضوعا على واحد من الرفوف العالية.
د.نزار السامرائي
الجزيرة