برزت إشكالية الموازنة بين الأمن والديمقراطية في المجتمعات العربية والغربية على حد سواء بعد تنامي الظاهرة الإرهابية وتصاعد وتيرتها عبر شن هجمات متعددة، كـ”آلية الذئاب” المنفردة التي عانى منها الغرب مؤخرا أو الحروب الضارية التي تعيش على وقعها المنطقة العربية لبث الفوضى وتنفيذ أجندات المتشددين وتهديد الأنظمة الديمقراطية.
ونظرا لاستفحال الخطر الإرهابي تتزايد التحديات الأمنية على عاتق الأنظمة العربية، وهو ما يطرح تساؤلات عن إشكالية التوازن الصحيح بين الأمن والحرية، وهل ثمة تعارض بين تحقيق قيم الديمقراطية والحرية والكرامة الإنسانية ومواجهة الإرهاب؟ وهي تساؤلات حاول “مؤتمر الأمن الديمقراطي في زمن التطرف والعنف” الذي يعقد على مدار ثلاثة أيام بالقاهرة بالتعاون بين مكتبة الإسكندرية ومنظمة نظامي كنجوي الدولي، بمشاركة رؤساء دول حاليين وسابقين ودبلوماسيين وخبراء دوليين الإجابة عنها من خلال السعي للتباحث والنظر في التجارب المختلفة التي تمخضت عنها قرارات بهذا الشأن والتي لجأت إليها الحكومات كل على حدة.
المشاركون في المؤتمر يتفقون على أن الإرهاب لن يهزم إلا من خلال المواجهة الثقافية، وهزيمة الأفكار المتطرفة بالفكر المنفتح الرامي إلى التعددية
وأقر المؤتمر بأن الإرهاب بات يشكل تحديا مختلفا، حيث تطالب الشعوب الحكومات بالحيلولة دون حدوث الفعل الإرهابي، وإجهاض المحاولات الإرهابية في المهد قبل أن تتحول إلى جرائم ومآس في حياة الشعوب. ومن هذا المنطلق باتت أجهزة الأمن تتمتع بسلطات واسعة في إجراءات المراقبة والتتبع، والتعامل بالشبهات حتى يتسنى لها التصدي للعمليات الإرهابية في مهدها، وعدم انتظار حدوثها، والقبض على الطرف المذنب أو المخطط لها. ولكن التوسع في الصلاحيات الممنوحة لأجهزة الأمن في سياق مكافحة الإرهاب عادة ما يستدعي طرح تساؤلات أساسية في كل المجتمعات حول قضايا الحرية، وكيفية تحقيق التوازن بين مقتضيات الأمن من جانب والحريات التي يكفلها الدستور والقانون للمواطنين من جانب ثان.
ولعلنا نتذكر القانون الشهير “Patrio Act” المعروف بقانون مكافحة الإرهاب الذي أصدرته الولايات المتحدة الأميركية بعد الهجمات الإرهابية في 11 سبتمبر 2001، الذي تضمن منح صلاحيات للحكومة لخوض “حرب على الإرهاب” من خلال تسهيل إجراءات التحقيقات وغيرها من الوسائل اللازمة. وقد نتج عنه معسكر غوانتانامو الشهير، وما عرف من إجراءات الاحتجاز الوقائي، والركون إلى أساليب التعذيب، والقتل المنهجي من خلال هجمات الطائرات من دون طيار، وغيرها.
وتتطلع المجتمعات العربية إلى محاولة القضاء على الظاهرة الإرهابية، ودحر قوى التطرف وهزيمة عنف المتطرفين، أيا كان توجههم، دينيا أو سياسيا، طالما أنهم يتخذون من الإرهاب وسيلة لتحقيق أجنداتهم. ونبه المؤتمر إلى تصاعد الإرهاب على جانبي المتوسط الذي أفرز تحديات عسكرية وأمنية وأيضا تحديات الثقافية، حيث تبدأ المجابهة الفعلية في عالم الأفكار من خلال الكشف عن الأقنعة الأيديولوجية والآراء الزائفة على حقيقتها، التي استوجب تهميشها حتى تنتفي قدرتها على جذب أجيال شابة استطاعت الاستحواذ على اهتمامهم.
المواجهة الثقافية
يتفق المشاركون في المؤتمر على أن الإرهاب لن يهزم إلا من خلال المواجهة الثقافية، وهزيمة الأفكار المتطرفة بالفكر المنفتح الرامي إلى التعددية. واعتبر إسماعيل سراج الدين، مدير مكتبة الإسكندرية، أن التحدي الأكبر في الواقع يتجسد في كيفية التوازن الصحيح بين حماية الأمن والمواطنين من جهة، وبين منع العنف وإيجاد طرق مختلفة لمواجهة التطرف من جهة أخرى. ولفت الرئيس خورخي إيفانوف، رئيس مقدونيا إلى أن بداية الحديث عن فكرة الديمقراطية تستوجب التذكير بأن الإنسانية تنبع دائما متى توافرت الحريات، غير أن هناك أعداء دائما ما يسعون لإنهاء تلك الحريات وغلق أفواهها.
ودعا الرئيس المقدوني إلى ضرورة التركيز على المواجهة الثقافية للتصدي للفكر المتطرف قبل أي شيء آخر، واعتماد حملات توعوية تدحض هذا الفكر، فالمواجهة لا بد أن تبدأ بالفكر وبما لا يتعارض مع حرية الأفراد التي يجب أن تكون مكفولة للجميع داخل مجتمعاتهم. وأوضح أولوسيجون أوباسانجو، رئيس نيجيريا السابق، أن كل ما يتعلق بالديمقراطية يتعلق بشكل أساسي بالأمن، وكذلك فالأمن بجميع جوانبه يقوي ركائز الديمقراطية، قائلا “إذا أردنا أن نؤكد على ازدهار الديمقراطية فلا بد أن يتواجد أمن”.
وأضاف الرئيس النيجيري أن “مواجهة التطرف والعنف تتطلب التعامل مع أسبابه وليس فقط أعراض المشكلة، فوجود التعليم الفعال أمر هام للتنمية، ورغم كونه غير كاف للتصدي للإرهاب إلا أنه يمثل أداة للتمكين، لأن الأفعال الإجرامية التي يقوم بها الأفراد ما هي إلا نتاج أفكارهم، فالتطرف يتكون في عقول الأشخاص الذين لا يحبون السلام، ولهذا يجب أن نواجه الفكر بالفكر”.
دواعي التطرف
تتخذ الجماعات الإرهابية غالبا الصراعات داخل الدولة ومعاناة الشباب المرهق من معضلة البطالة وغياب العدالة الاجتماعية ذريعة لخلق فرص تواجدها، ولهذا وجب من الدولة أن تكثف جهودها لتوفير مستلزمات الحياة التي تتطلع لها الفئة الشابة كخلق تنمية وسياسات اقتصادية شمولية وتجويد التعليم وكذلك تمكين النساء من حقوقهن كإجراءات وقائية تمنع من خلالها توغل الفكر المتطرف، وفق ما طالب به مؤتمر الإسكندرية. واعتبر بوريس تاديش، الرئيس الصربي السابق، أن مفهوم التطرف الديني يمثل تهديدا عالميا، ولهذا يجب أن نتطرق للأسباب التي دفعت لتلك الظاهرة.
ولفت تاديش إلى أنه من ضمن الأسباب وراء تصاعد ظاهرة التطرف نقص الفهم والتفاهم بين الأفراد والمجتمعات، ويتضح ذلك بشدة عندما يتعلق الأمر بالاختلافات والتناقضات بين الدول، ولهذا “يجب أن نبذل قصارى جهدنا من أجل مواجهة اختلاف الأفكار والثقافات، ولا بد أيضا أن نكون أكثر فاعلية وأن يلعب المفكرون والمثقفون دورا في هذه المواجهة، حيث أن الأساليب العسكرية لم تعد مجدية كما في السابق، والخيارات السياسية تواجه العديد من المشكلات داخلها”.
الخطاب الديني المنفصل عن الواقع وخاصة في ما يتعلق بصورة المرأة، نتجت عنه معضلة في مواجهة التطرف الفكري، فبدا المقدس ضحية كل هذه التحديات والإساءات
ويرى عادل البلتاجي، رئيس اللجنة التنفيذية لمجلس أمناء مكتبة الإسكندرية، أن ظاهرة الإرهاب والتطرف موجودة منذ بداية الخلق، حتى وإن بدا نوع من الخمول يظهر عليها، حيث بدت وكأنها في حالة لمعاودة الظهور. مضيفا أن “وجود العنف والظلم والتمييز العنصري وتقييد كرامة الإنسان، وهي جميعا أمور تساعد في خلق التطرف، بالمقابل فإن وجود المحبة والتسامح والسلام بالأفكار والعقول، يقيّد التطرف”. وأشار البلتاجي إلى “ضرورة تطلع الشعوب إلى نظام عالمي جديد ينهي العنف، وهو الطريق الوحيد لإنهاء هذه المعضلة”.
وتقول السفيرة مشيرة خطاب، الوزيرة السابقة للأسرة والسكان، إن “الحكومات غالبا ما تجد نفسها فريسة للدفاع عن الديمقراطية والأمن والإرهاب، ولهذا فالعلاقة بين الديمقراطية والأمن هي علاقة مترابطة، فالأمن الديمقراطي يوحي بأن القرار الذي تم اتخاذه عن طريق الأمن، يتخذ عن طريق عملية ديمقراطية بالتشاور بين المواطنين وحكوماتهم، ولهذا يجب التأكد من وجود الدعم الشعبي للإجراءات التي تبدو حادة في مواجهة التطرف وكذلك يجب الحديث عن السياسات التعليمية والوقائية من أجل مكافحة الإرهاب”.
وأكدت خطاب أن الحروب الحالية تشكل خطرا يتهدد الأمن العالمي، وأن هذه التهديدات تتطلب حلولا مختلفة، حيث أن هناك قوى خفية لمواقع التواصل الاجتماعي يقع توظيفها، مما يتطلب إجراءات وقائية مختلفة، وتلك الإجراءات ستحمي عقول الشباب، إضافة إلى أنه لا بد من توفير الحماية اللازمة ضد التمييز الاجتماعي، ووضع حلول للتنمية ضد الفقر الذي يعتمد كذريعة للكثير من العقول الشابة للتوجه نحو التطرف ويتناول ذلك نوعية التعليم والأنشطة الثقافية والمناهج في المدارس التي دائما ما كانت تدرس فكرة الخوف من الآخر”. وخلصت إلى أن الخطاب الديني المنفصل عن الواقع وخاصة في ما يتعلق بصورة المرأة، نتجت عنه معضلة في مواجهة التطرف الفكري، فبدا المقدس ضحية كل هذه التحديات والإساءات.
صحيفة العرب اللندنية