لم يؤد التصعيد الأخير بين إسرائيل وإيران إلى تكثيف المخاوف الأمنية في دول الخليج فحسب، بل أدى أيضًا إلى تسريع تطور مفهوم الأمن الحدودي الذي بدأ يتغير في عام 2019، عندما لاحظت دول الخليج الاستجابة الأميركية الباهتة بعد الهجمات التي شنها الحوثيون على الإمارات والسعودية.
الرياض – أعاد الهجوم الذي شنته حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر، والهجوم الذي شنته الأخيرة على قطاع غزة المستمر منذ أشهر، تعريف الاعتبارات الأمنية لدول مجلس التعاون الخليجي بشكل جذري. وأرسلت الضربات الصاروخية والطائرات دون طيار الإيرانية غير المسبوقة على إسرائيل، والتي أطلقت رداً على قصف إسرائيلي لمجمع السفارة الإيرانية في دمشق، رسالة واضحة إلى الدول الإقليمية حول النفوذ العسكري لطهران.
وعلى الرغم من التقارب الناجح نسبياً بين إيران ودول الخليج في أعقاب اتفاق المصالحة السعودي – الإيراني الذي توسطت فيه الصين في مارس 2023، فإن الهجوم الإيراني على إسرائيل أثار قلق دول الخليج.
ويقول عبدالله باعبود باحث أول غير مقيم في مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط إنه على الرغم من أن طهران كشفت عن نطاق العملية لجيرانها في الخليج قبل إطلاقها، إلا أن نطاقها وطبيعتها أجبرا هذه الدول على إعادة تقييم أولوياتها الأمنية.
ويشير باعبود إلى أن القضية هنا هي إدراك حقيقة مفادها أنه في ظل المشهد الأمني المتطور، لم يعد تأمين الحدود الإقليمية كافياً عندما يتعلق الأمر بالحماية من التهديدات المحتملة، إذ أن الأمن القومي يتطلب تدابير إضافية.
وتواجه دول مجلس التعاون الخليجي تحديات كبيرة في التعامل مع هذه التحديات الأمنية المتطورة التي تهدد حدودها وسيادتها، ما يستوجب إيجاد التوازن بين التقارب الدبلوماسي الأخير مع إيران، وجهودها المستمرة لتطوير إطار أمني إقليمي يشمل إسرائيل والولايات المتحدة، وجاذبيتها السياسية والاقتصادية الجديدة تجاه الصين، وبدرجة أقل روسيا.
وكانت المواجهة بين إسرائيل وإيران في عام 2024 مجرد واحدة من عدة حوادث في الذاكرة الحديثة التي أزعجت دول الخليج ودفعتها إلى إعادة التفكير في إستراتيجياتها الجيوسياسية، وخاصة في ما يتعلق بحماية الحدود.
وبالنسبة إلى دول مجلس التعاون الخليجي فإن فقدان الدعم الأميركي للحرب التي تقودها السعودية ضد الحوثيين في اليمن، جنبًا إلى جنب مع التهديد المستمر ومتعدد الأوجه الذي تشكله الميليشيات اليمنية المدعومة من إيران، خلق تصورًا لمظلة أمنية أميركية متضائلة في المنطقة.
وأدركت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر، التي كانت تنظر إلى الولايات المتحدة منذ فترة طويلة باعتبارها ضامنًا رئيسيًا للأمن، أنها يجب أن تتكيف مع وضع جديد.
وأحدثت التطورات المتعلقة باليمن لحظة من الكشف عندما شنت جماعة أنصارالله، ردًا على مشاركة التحالف الذي تقوده السعودية إلى جانب خصومها في الحرب الأهلية اليمنية، هجومًا بطائرات دون طيار على مصنع معالجة النفط في بقيق وحقل خريص النفطي في المملكة العربية السعودية في عام 2019.
وقوبل هذا برد أميركي صامت. كما شنت جماعة أنصارالله عملية مماثلة ضد شاحنات صهريج النفط في أبوظبي في عام 2022.
وقد دفع الافتقار الملحوظ للدعم الأميركي القوي للمملكة العربية السعودية في أعقاب هجوم عام 2019، وللإمارات العربية المتحدة بعد ضربة عام 2022، الرياض وأبوظبي إلى إعادة تقييم اعتمادهما على الحلفاء الخارجيين للحصول على ضمانات أمنية. وبالنسبة إلى دول الخليج ككل، عززت المواجهة الأخيرة بين إسرائيل وإيران الأهمية المتزايدة للحدود الجوية.
وفي حين لم تهدد الضربات الانتقامية الإيرانية على إسرائيل أي دولة من دول مجلس التعاون الخليجي بشكل مباشر، إلا أن هذه الأخيرة كانت قلقة بشكل خاص من استخدام طهران للمجال الجوي الأردني، خاصة وأن الأردن يشترك في حدود مع المملكة العربية السعودية.
ولفتت الأعمال العدائية بين إيران وإسرائيل الانتباه مرة أخرى، ولو بشكل غير مباشر، إلى قضية انتشار الأسلحة النووية في الشرق الأوسط. ورغم أن أياً من البلدين لم يعترف رسمياً بحيازة أيّ أسلحة نووية، فمن المعتقد على نطاق واسع أن إسرائيل تمتلك ترسانة نووية، في حين يقال إن إيران على بعد أسابيع فقط من القدرة على تطوير سلاح نووي.
وحذر ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان من أنه إذا قامت إيران بتجميع قنبلة نووية، فإن بلاده ستسعى أيضاً إلى الحصول على مثل هذه الأسلحة. وقد يثبت ظهور سباق التسلح النووي في الشرق الأوسط أنه كارثي، مع تداعيات أمنية عالمية واسعة النطاق وعواقب اقتصادية وخيمة.
وبالنسبة إلى دول مجلس التعاون الخليجي فإن هذا من شأنه أن يقوض بشكل خطير التحول الجاري بعيداً عن الاعتماد على الهيدروكربونات، نظراً إلى أن الموارد المخصصة لمبادرات التنمية المستدامة قد تتحول بسهولة إلى التكنولوجيا النووية، كما سيؤدي إلى التراجع عن التقدم الأخير المحرز في الحد من التوترات مع إيران.
ومن الناحية النظرية، من شأن تعميق العلاقات الأمنية مع إسرائيل والولايات المتحدة أن يمنح دول مجلس التعاون الخليجي إمكانية الوصول إلى مظلة أمنية إقليمية أوسع للتعامل مع التهديد المتصور الذي تشكله إيران ووكلاؤها.
وكانت الإمارات والبحرين قد قامتا بالفعل بتطبيع العلاقات مع إسرائيل قبل اندلاع الأزمة الإسرائيلية – الإيرانية، وليس سراً أن المملكة العربية السعودية تتفاوض على اتفاقية أمنية مع الولايات المتحدة في مقابل اعتراف السعودية بإسرائيل. ومع ذلك، فإن التحالف الصريح مع إسرائيل من جانب دول مجلس التعاون الخليجي من شأنه أن يزيد من خطر استهدافها من قبل إيران والجماعات المتحالفة معها في المنطقة.
◙ المواجهة بين إسرائيل وإيران زادت من انزعاج دول الخليج ودفعتها إلى إعادة التفكير في إستراتيجيات حماية الحدود
والواقع أنه من الواضح أن دول الخليج امتنعت عن الانحياز إلى أيّ طرف في المواجهة بين إيران وإسرائيل، وحثت بدلاً من ذلك على ضبط النفس المتبادل. ولا تزال دول الخليج، على الأقل في الوقت الحالي، تعتمد على واشنطن كضامنة للأمن.
وتستضيف معظم دول مجلس التعاون الخليجي قواعد عسكرية أميركية وتظل تعتمد بشكل كبير على الولايات المتحدة في مجال الأسلحة. ومع ذلك، فإن الافتقار إلى استجابة أميركية قوية لهجمات الحوثيين على السعودية والإمارات دفع البلدين إلى التحوط ضد اعتمادهما التقليدي على مظلة واشنطن الأمنية، وخاصة عندما يتعلق الأمر بحماية مجالهما الجوي والممرات المائية.
وشمل ذلك تعميق العلاقات مع القوى الناشئة مثل الصين، واستكشاف التعاون المتزايد مع روسيا، وتعزيز التحالفات الإقليمية. كما كثفت دول الخليج جهودها لتعزيز قدراتها العسكرية والبنية الأساسية الدفاعية. ويشمل ذلك الاستثمارات في الأسلحة المتقدمة والتكنولوجيا العسكرية وتطوير الصناعات الدفاعية المحلية. ويرجح باعبود أن المواجهة الأخيرة بين إسرائيل وإيران لن تؤدي إلا إلى تسريع هذه العمليات.
وتسلط الرؤية الجديدة الأخيرة لمجلس التعاون الخليجي للتعاون الأمني الإقليمي الضوء على ميل دول الخليج المتزايد إلى أخذ الأمن بأيديها.
وتهدف الخطة المقترحة إلى تمكين الدول الأعضاء الست في مجلس التعاون الخليجي من حماية وإدارة حدودها بشكل أكثر فعالية. وتشمل المكونات الملموسة للرؤية التدريبات العسكرية المشتركة، ومنصات الاستخبارات المشتركة، والهياكل الدفاعية المتكاملة.
ومن خلال إعطاء الأولوية للأمن والاستقرار الإقليميين، وتعزيز الشراكات الإستراتيجية، وحماية الموارد الاقتصادية الحيوية وإمدادات الطاقة، يهدف مجلس التعاون الخليجي إلى الحد من الاعتماد على الجهات الفاعلة الأمنية الخارجية.
ومع ذلك، فإن فاعلية هذه المبادرة في تمكين دول مجلس التعاون الخليجي من تولي الأمن بالكامل بأيديها سوف تعتمد على التكامل التشغيلي لتدابير أمن الحدود، والوحدة السياسية بين الدول الأعضاء، والقدرة على التكيف بسرعة مع التهديدات الأمنية المتطورة في المنطقة.
العرب