شكلت التطورات التي جرت في إيران ومنطقة الخليج في بدايات هذا الشهر تذكيراً قاتماً بأن إيران تظل تشكل التهديد الرئيسي للمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة الأميركية في الخليج والشرق الأوسط، وأكدت أن الجنرال جيمس ماتيس كان محقاً تماماً بإفراد إيران دون غيرها على أنها تشكل هذا التهديد. ويشكل التطرف الإسلاموي والإرهاب تهديدين حقيقيين -لكنهما يظلان محدودين في نطاقهما ومدى فتكهما.
على العكس من ذلك، تمتلك إيران القدرة على إشعال فتيل حرب رئيسية في المنطقة، وبالتالي تهديد المصدر الرئيسي لصادرات النفط والغاز العالميين -نحو 17 مليون برميل من النفط التي تتدفق يومياً عبر مضيق هرمز. ومن شأن أي عمل إيراني من هذا القبيل تهديد استقرار الاقتصاد العالمي برمته، وسعر النفط العالمي (والأميركي المحلي) وأنواع وقود النقل، وقدرات الاستيراد والتصدير لشركاء أميركا التجاريين الرئيسيين في آسيا- أكثر من ثلث الواردات الصناعية الأميركية.
هذه تذكرة قاتمة بحقيقة أن إيران سبق وأن هددت في الماضي بإغلاق الخليج أمام كل حركة الشحن البحري، وبأنها تبني بثبات خليطاً من القدرات البحرية والصاروخية والجوية لتهديد حركة الشحن على طول ساحل الخليج وعند المضيق وخارج خليج عُمان. وليست هذه مجرد سلسلة حوادث استعراضية أو طارئة. فإيران، تبني بثبات قدراتها في الغواصات والغوص والصواريخ المضادة للسفن والمتركزة براً وبحراً وجواً، والقدرة على زرع ألغام ذكية بسرعة، والقدرة على “حشد” زوارق دورية سريعة مسلحة بصواريخ وقوارب فائقة السرعة مجهزة بمتفجرات، والتي يمكن استخدامها في هجمات انتحارية. وفي الوقت نفسه، تقوم بتوسيع نشاطاتها في المحيط الهندي.
يذهب التهديد العسكري الإيراني إلى ما هو أكثر بكثير من العمل ضد سفن القتال والشحن في الخليج، بطريقة موصوفة بشكل مفصل في دراسة حديثة لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بعنوان “إيران والميزان العسكري الخليجي”. وقد أجبرت خطة العمل المشترك التي تضمنتها الاتفاقية النووية بين إيران ومجموعة (5+1) إيران على تفكيك -أو الحد من- قدرة بعض المرافق النووية الرئيسية، من دون أن تستطيع أي اتفاقية للسيطرة على أسلحة أن تضمن المستقبل. ولم تؤثر الاتفاقية على قدرة إيران في تطوير أجهزة طرد مركزي أكثر تقدماً أو تنفيذ طائفة واسعة من نشاطات تطوير أسلحة نووية سرية ومنخفضة الوتيرة.
ولعل الأكثر أهمية -على الأقل طالما ظلت الاتفاقية النووية الحالية قيد العمل- أن إيران تبني بشكل ثابت خليطاً ضخماً من الصواريخ والمدفعية بعيدة المدى والصواريخ البالستية وصواريخ الكروز، وتطوير المقدرة على تسليحها برؤوس حرب تقليدية موجهة بدقة. وإذا نجحت إيران في خلق قوة ضخمة من الصواريخ الدقيقة فعلاً، فإنها ستستطيع الذهاب من قدرة أسلحة التدمير الشامل إلى أسلحة التأثير الجماهيري -استهداف مرافق بترولية حساسة ومرافق تحلية المياه والطاقة والمرافق العسكرية في الخليج- وحتى في إسرائيل ومصر.
إذا استطاعت إيران الحصول على أنظمة أسلحة أكثر تطوراً فعلاً، مثل نظام صواريخ (اس-300) المضاد للطائرات الذي اشترته من روسيا، ومثل الصواريخ الصينية المضادة للسفن والأكثر تطوراً لديها، فإنها ستستطيع تغيير الميزان في كل واقع من وقائع الحرب التقليدية. وكانت إيران قد أبدت اهتمامها بهذه المشتريات بكل وضوح، وأظهرت أنها تستطيع العمل مع روسيا في سورية، كما أن ضبط النفس الإيراني غير قابل للتنبؤ به.
ما تزال إيران تحقق نجاحاً كبيراً جداً في زيادة نفوذها الاستراتيجي العسكري في المنطقة. فقد عملت مع سورية لإعطاء حزب الله في لبنان مجموعة ضخمة من الصواريخ والقوى الصاروخية الأكبر بكثير من الصواريخ التي كانت لدى حزب الله في العام 1982، وأصبحت تشتمل على الأقل على بعض الأنظمة الموجهة بدقة. وساعدت إيران حزب الله في أن يصبح قوة رئيسة في سورية، بالإضافة إلى تقديم مستشاريها ومتطوعيها وأسلحتها وأموالها للأسد.
تجدر ملاحظة أن إيران توقفت إلى حد كبير عن مهاجمة الأميركيين في العراق بعد أن تقدم الجنرال ماتيس الصفوف في الضغط من أجل رد فعل أميركي قوي، والتهديد بالرد في العام 2011. ومنذ ذلك الحين، ما تزال إيران تبني بثبات نفوذها ودورها العسكري في العراق، وقد وضعت مستشارين من العديد من المستويات مع القوات الأمنية والميليشيات العراقية، كما أنها تلعب دوراً رئيسياً في تسليح وتدريب قوات ميليشيات الحشد الشعبي الشيعية، واستخدمت حزب الله كوكيل عنها في كسب النفوذ على قوات الحشد الشعبي.
في بدايات هذا الشهر، ذكرت مجلة “ذا لونغ وور جورنال” أن “أبو مهدي المهندس، نائب قائد قوات الحشد الشعبي في العراق، أعطى مقابلة مهمة لفضائية “الميادين” الموالية لإيران، والتي أكد فيها تواجد حزب الله اللبناني في العراق. وفي المقابلة، قال المهندس إن هناك علاقة “جيدة جداً” بين قوات الحشد الشعبي وبين حزب الله اللبناني، والتي تجري “بمعرفة وموافقة” الحكومة العراقية. وأضاف أن كلا من رئيسي الوزراء العراقيين السابق نوري المالكي والحالي حيدر العبادي على علم بالعلاقة منذ بدايتها “نزولاً إلى أدق التفاصيل”.
وقال المهندس أيضاً إن قوات الحشد الشعبي “استفادت كثيراً” من دعم حزب الله الذي لعب دوراً “مركزياً” و”مهماً جداً” في جهوزية قوات الحشد الشعبي للمعركة. وقال المهندس “إن الإخوة في حزب الله” أرسلوا مستشارين إلى العراق منذ بداية المعارك ضد “داعش”. وسوية مع إيران، ساعد حزب الله قوات الحشد الشعبي “في التدريب والتخطيط وبالأسلحة والمعدات”. ومع ذلك، ألمح أيضاً إلى أن دور حزب الله قد لا يكون استشارياً بشكل حصري، قائلاً إن المجموعة الشيعية المتمركزة في لبنان “قدمت شهداء” في ميادين المعارك في العراق.
من الواضح تماماً أيضاً أنه متى ما ساعدت الولايات المتحدة العراق في إلحاق الهزيمة بتنظيم “داعش”، فإنه سيكون لدى إيران كل حافز لمحاولة إخراج الولايات المتحدة من العراق والهيمنة بالتالي على الجانب الشيعي من السياسة العراقية والقوات الأمنية. ومن الواضح على قدم المساواة -كما حذر الجنرال ماتيس بوضوح خلال شغله منصب قائد قوات القيادة المركزية الوسطى- أن الولايات المتحدة لن تقف موقف المتفرج في المواجهة بين إيران والسعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة والدول العربية الأخرى. وبالإضافة إلى ذلك، تلعب إيران دوراً نشطاً في إذكاء التوترات السنية-الشيعية في البحرين والكويت واليمن أيضاً.
تلقت الولايات المتحدة تحذيراً ثالثاً خلال الأسبوع نفسه. فقد كان الموت المفاجئ لآية الله أكبر هاشمي رفسنجاني يوم الثامن من كانون الثاني (يناير) الحالي بمثابة خطوة أخرى أبعد في نمط يحكم السياسة الداخلية الإيرانية، مما يجعل من الأقل رجحاناً أن يتم استبدال المرشد الديني الأعلى الحالي في إيران -آية الله علي خامنئي– بواحد أكثر اعتدالاً. وبقدر مساوٍ، يجعل هذا النمط من الأقل ترجيحاً أن يستطيع الرئيس الإيراني حسن روحاني تعديل الموقف المتشدد لخامنئي وجهاز الحرس الثوري الإيراني، أو تغيير قدرة الخط المتشدد على السيطرة على كل منحى من مناحي المشهد الأمني لإيران.
كان رفسنجاني قد تطور ليكون حامياً رئيسياً للشخصيات السياسية المعتدلة في بلد حيث قد يكون “المعتدل” تصيفاً نسبياً، لكنه يظل مهماً جداً. وقد تستحق الولايات المتحدة بعض اللوم لأنها لم تستغل بشكل مناسب الفرص التي خلقها الاتفاق النووي، لكن السياسة الداخلية لإيران -والمرشد الأعلى الحالي فيها- أوضحوا تماماً أن الاتفاق النووي فُرض على إيران، وأن المرشد الأعلى وجهاز الحرس الثوري يظلون صقريين كما هو حالهم دائماً.
يجب على الرئيس ترامب وجانبي قسمة الكونغرس في مجلسي الشيوخ والنواب تذكر هذه الحقائق المتعلقة بالتهديد الإيراني عندما يعيدون فحص الاستراتيجية الأميركية والسياسة الأمنية في بداية عهد الإدارة الجديدة. ويجب عليهم أن يتذكروا أيضاً أن استقلال الطاقة الأميركي سيوجد فقط عند توفر كل أشكال الطاقة -وأن الولايات المتحدة ستظل معتمدة على النفط المستورد.
والأكثر أهمية، يجب عليهم تذكر كم كان الجنرال ماتيس مصيباً في التركيز على التهديد الإيراني مع تركيزه على الإرهاب والتهديدات الأخرى في المنطقة، وكم كانت جهوده لخلق شركاء استراتيجيين من إسرائيل ودول عربية مهمة، وأنه -بينما لم يكن يتوافر على الدعم الكامل من البيت الأبيض- دعم وزيرا الدفاع والخارجية في حينه إجراءً أميركياً أكثر حسماً.
تمس حاجة الولايات المتحدة إلى وزير دفاع يتوافر على قدرة مثبتة على التفكير استراتيجياً وتطوير خطة عمل عالمية حقاً، مع التركيز على الحروب المشتركة وليس على خدمة مفردة؛ وزير يعرف كيف يدير الموارد بفعالية والذي يرى قيمة الشركاء الاستراتيجيين، والذي يسعى إلى إجراءات حاسمة ومتناسبة في الوقت نفسه. إننا نحتاج في الحقيقة إلى أفضل وزير دفاع نستطيع الحصول عليه -وليس فقط بسبب الشرق الأوسط والخليج.
أنتوني كوردسمان
صحيفة الغد