كانت إيران وتركيا براغماتيتين دائماً في علاقاتهما الثنائية على الرغم من تنافسهما، ومواقفهما المختلفة أحياناً. لكن انتفاضات الربيع العربي كشفت -وفي بعض الأحيان خلقت- عداوات عميقة. وقد ظهرت الخلافات منذ بداية الأزمة السورية. وكانت أنقرة على وفاق جيد مع دمشق كجزء من سياستها “صفر مشاكل مع الجيران”، لكنها بعد أن حاولت (عبثاً) إقناع حكومة الرئيس بشار الأسد بإجراء إصلاحات، منحت دعمها للمعارضة. أما إيران التي تعتمد سياستها الشرق أوسطية برمتها على سورية، فقد تبنت موقفاً مخالفاً كلية، فدعمت حكومة الأسد وجندت حلفاءها في لبنان، بما فيهم حزب الله، وشبكات أخرى: من المليشيات الشيعية العراقية بالإضافة إلى متطوعين شيعة من بلدان مختلفة شاركوا في حصار شرق حلب. وبينما أصبحت إيران أهم حليف لحكومة الأسد -على الأقل حتى التدخل الروسي في أيلول (سبتمبر) من العام 2015- كانت تركيا تخول حلف شمال الأطلسي بنشر دفاعات مضادة للصواريخ على أراضيها بعد انتهاك مجالها الجوي من جانب سلاح الجو الروسي، وأيضاً لحماية نفسها من صواريخ تطلق من سورية. وكانت إيران معارضة لهذه القرارات التي رأت فيها تهديداً مباشراً.
وفي الأثناء، تشعر الحكومة الإيرانية بأن تركيا تخلت عن سياستها المستقلة عن الولايات المتحدة، والتي كانت قد بدأت في العام 2003 عندما رفضت تسهيل التدخل العسكري الأميركي في العراق. وفي تموز (يوليو) 2015، منحت تركيا للولايات المتحدة التخويل باستخدام قاعدتها الجوية في إنجرليك لشن ضربات جوية ضد قوات “داعش”. واستفز هذا القرار، على الرغم من أنه ساعد في احتواء تقدم “داعش”، غضب إيران التي نظرت إلى ذلك بشكل رئيسي على أنه طريقة جديدة من تركيا للسعي إلى التقارب مع الولايات المتحدة. كما شعرت إيران بالقلق من تجمع تركيا والسعودية وقطر على سورية في بداية العام 2015، عندما اتفقت البلدان الثلاثة على تنسيق عملياتها وزيادة دعمها المقدم للمعارضة السورية. وسرعان ما اثمر هذا التنسيق: فمن آذار (مارس) 2015 تقدمت قوات الثوار في أجزاء مختلفة من سورية. فضغطت إيران تبعاً لذلك على روسيا لتتدخل.
على الرغم من التوصل إلى الاتفاق النووي الإيراني في تموز (يوليو) 2015، بدأت تركيا وإيران حرباً كلامية حول سورية، واتهمتا بعضهما البعض بدعم الحركات الإرهابية. وغضب الرئيس رجب طيب أردوغان بسبب اتهامات وسائل الإعلام الإيرانية التي قالت إن تركيا تشتري نفطاً من آبار النفط السورية التي يسيطر عليها “داعش”. وعندما توطدت الروابط مع بعض دول الخليج النفطية، أسست تركيا في أيار (مايو) من العام 2016 -ولأول مرة منذ أفول الامبراطورية العثمانية- قاعدة عسكرية على أراضي أقرب حليف إقليمي لها، قطر. وتعكس هذه المبادرة التحالف السني الذي دشنته السعودية في آذار (مارس) 2016، وتشترك في عضويته كل من تركيا وقطر. قد أثارت هذه التطورات -ونفاذ تركيا إلى الخليج الذي تعتبره إيران منطقة نفوذ خاصة لها- قلق إيران.
مع أنهما متعارضتان بشكل كبيرة في الكثير من القضايا الإقليمية، تظل تركيا وإيران مرتبطتين مع بعضهما من خلال التجارة والطاقة. وتشتري تركيا النفط والغاز من إيران بينما تستورد إيران سلعاً استهلاكية تركية. لكن الاختلافات السياسية تلقي بثقلها: فقد هبطت قيمة التجارة البينية من 21.89 مليار دولار في العام 2012 إلى 13.7 مليار دولار في العام 2014، وإلى 9.7 مليار دولار فقط في العام 2015. ومع أن هذا التراجع يعزى في جزء منه إلى هبوط اسعار الهيدروكربونات، فإن هذه المستويات تبقى أقل بكثير من الهدف الذي كان البلدان قد حدداه والبالغ 35 مليار دولار. وحتى مع ذلك، عرضت إيران خدماتها كوسيط خلال الأزمة التي نجمت بين أنقرة وموسكو عندما أسقطت تركيا طائرة مقاتلة روسية قيل أنها اخترقت المجال الجوي التركي في تشرين الثاني (نوفمبر) في العام 2015، في سعي منها، من دون شك، إلى تحسين علاقاتها مع تركيا. وفي إشارة على أن البراغماتية ما تزال سائدة، وقعت إيران وتركيا على اتفاقية حول السياحة في العام 2016، وما تزالان تبحثان سبل التعاون الاستراتيجي في مجال النفط والغاز.
منحت محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا يومي 15-16 تموز (يوليو) الماضي إيران فرصة لم تكن تحلم بها لتحسين علاقتها مع جارتها. فبينما كان الانقلاب يجري، غرد وزير الخارجية الإيرانية على “تويتر”، معلناً دعم إيران للحكومة التركية. كما أعرب المجلس الأعلى للأمن القومي في إيران، والذي يرأسه الرئيس حسن روحاني، عن الدعم الرسمي “للحكومة الشرعية لتركيا”. وتضاربت هذه الاستجابة الفورية مع الرد الذي اتسم بالبطء لبلدان “الناتو” التي تعتبر الحلفاء الرسميين لحكومة أردوغان. وبعد وقت قصير من الانقلاب الفاشل، اقترح روحاني عقد مباحثات حول قضايا إقليمية، مستفيداً بوضوح من ذلك التطور لدعوة الحكومة التركية إلى إعادة النظر في موقفها من سورية. وفي أقل من شهر، كان هناك تقارب. ويتركز الإجماع على ثلاثة أهداف رئيسية بحثت أصلاً، وإنما من دون نجاح، في محادثات سرية جرت بعد ثلاثة أشهر من انتخاب روحاني: المحافظة على سيادة سورية الإقليمية؛ ومحاربة كل الحركات المتطرفة والإرهابية؛ وتأسيس حكومة وحدة وطنية عبر انتخابات باشراف الأمم المتحدة.
مع ذلك، ومع وجود تفاهم رسمي على هذه النقاط، سادت خلافات، وخاصة حول دور الأسد، مما جعل التقارب هشاً. وكانت الولايات المتحدة وتركيا تعملان من أجل إذابة الجليد في علاقتهما التي أصبحت باردة بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة؛ واجتمع أوباما وأردوغان في أوائل أيلول (سبتمبر)، وكانت تركيا قد شنت قبل ذلك بشهر عملية درع الفرات في شمالي سورية بالتعاون مع الولايات المتحدة من دون تحذير إيران. ولأنها أُخذت بالمفاجأة، اعتبرت إيران العملية انتهاكاً لسيادة سورية، واتهمت تركيا بتعقيد الوضع الإقليمي. لكن هذا لم يمنع تركيا من توسيع عملياتها لتأسيس منطقة آمنة كأمر قائم للمعارضة في الأراضي السورية. ويعتبر هذا الملاذ الآمن مهماً مع سقوط آخر معاقل للثوار في شرق حلب، لكنه لا يسر إيران.
وهكذا، وعلى الرغم من أن إيران وتركيا تسعيان رسمياً إلى إرضاء بعضهما، كما اقترح عقد اجتماع بين روحاني وأردوغان على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول (سبتمبر) الماضي، فإن مواقفهما تستمر في التباين على صعيد السياسة الإقليمية. ففي رد على السياسة الخارجية الإيرانية، حول القضية الشيعية، يصور أردوغان نفسه بالتدريج على أنه حامٍ للسنة. وفي العراق، في سياق العمليات العسكرية لاستعادة الموصل، دان أردوغان تواجد المليشيات الشيعية المدعومة من إيران على الأراضي العراقية، واصفاً إياها بأنها تشكل تهديداً للسنة. وعمد إلى حشد قوات على الحدود مع العراق، ملمحاً إلى أن هذه القوات لن تقف مكتوفة الأيدي إذا عانى السنة خلال العمليات ضد “داعش” في الموصل وتلعفر (التي توجد فيها أقلية تركمانية كبيرة).
يعتقد بعض المراقبين أن هذا التحذير لداعمي إيران في العراق -وبشكل غير مباشر للسياسة الإيرانية في العراق- يمكن أن يشكل أساساً لتقارب بين الحكومة التركية وإدارة ترامب. وإذا حدث ذلك، فإن من الصعب إرضاء إيران في ضوء الطريقة التي يتحدث بها ترامب ومستشاروه عنها.
محمد رضا جليلي؛ وثييري كيلنر
صحيفة الغد