بعد الانتصار الذي تحقق لروسيا في حلب، من الواضح أن الرئيس فلاديمير بوتين قرر طي صفحة وفتح أخرى تبحث الحل السياسي في أسوأ صراع وأكثره شراسة وتعقيدًا في التاريخ المعاصر دام لستة أعوام. أهم خطوة اتخذها بوتين كانت توقيع اتفاقية مع تركيا لوقف إطلاق النار، وفتح الطرق والمعابر للمساعدات الإنسانية، تمهيدًا للمحادثات الجارية الآن في العاصمة الكازاخية (آستانة)، التي تأتي بدورها تمهيدًا لمحادثات جنيف في شهر فبراير (شباط) المقبل، التي يفترض أن تصوغ الحل السياسي النهائي. هذا ما اتفقت عليه روسيا وتركيا، الدول الضامنة لأطراف النزاع. أما إيران، الضلع الثالث في الصراع السوري، فتذهب إلى «آستانة» مكرهة، تشعر بغصة وهي تحاول أن تذود أمام الروس عن أهدافها من هذه الحرب التي كلفتها مليارات الدولارات، وعناصر حشدتها من إيران والعراق ولبنان وأفغانستان، وحضور لقيادات عسكرية كبيرة في ساحات المعارك، بعضهم دفع حياته في مواجهتها.
أي ضرس أوجع طهران في هذه المحادثات وحملها على التصادم مع الروس؟
محادثات آستانة تهدف بالدرجة الأولى إلى تثبيت وقف إطلاق النار الذي بدأ نهاية العام الماضي. وبهذا المعنى، فإنها تبدو كأنها خرجت خاسرة لأن استمرار الاشتباك هو الذي يغذي الوجود الإيراني، ويمنيها بسراب الاستيطان، وهي تخشى من أن هذه المحادثات ستفضي إلى حكومة انتقالية تقبل بوجود الأسد مؤقتًا، وبالنسبة لطهران شخص الأسد هو النظام السوري الحليف، وبخروجه تفقد كل مكتسباتها. والقلق الكبير الذي لم يفلح الإيرانيون في إخفائه منذ أشهر، هو شعورهم بأن الروس يتخلون عنهم بعد هذا الشوط الطويل. وقد أشرت في مقال في أغسطس (آب) الماضي إلى أن طهران ترى أن روسيا حجر عثرة في طريقها بتطفلها على منطقة تعدها مستباحة لها. الروس بدورهم يؤكدون حقيقة شهدها العالم؛ أنه لولا تدخلهم العسكري لاحتلت المعارضة السورية المسلحة دمشق خلال أيام، ولم يكن الوجود الإيراني بكل تعبئته سيفلح في صدها. أمام هذا الاستحقاق، نرى موسكو تشهر يدها عاليًا فوق يد طهران، وتملي عليها ما تفعله، ولولا الروس أيضًا لانهار اتفاق وقف إطلاق النار بسبب حزب الله والميليشيات الإيرانية التي تفتعل معارك في وادي بردى.
إيران تصر على وجود بشار الأسد، وروسيا تطمح إلى ما هو أكبر من ذلك بكثير، بعد أن أرهقتها العقوبات الأميركية والأوروبية في موضوع أوكرانيا، وهي تعاني بالفعل من وضع اقتصادي سيء؛ هنا مفترق طرق بينهما، لكن الغلبة للأقوى، والكل يعرف من الأقوى.
بوتين أيضًا يمهد لحضور صديقه دونالد ترمب، الرئيس الأميركي الجديد، الذي نطق بما لم يتجرأ على نطقه رئيس أميركي سابق، من أنه ينظر لإيران وتنظيم داعش والقاعدة بالعين نفسها، وهو ما حاولت الدول العربية المساندة للمعارضة السورية إقناع الإدارة الأميركية السابقة به منذ عقدين من الزمن، ولكن لم تنجح مساعيها بعدما رأت أن جل اهتمام باراك أوباما هو توقيع الاتفاق النووي متجاهلاً عمق المشكلة، فتعززت قوة الإرهابيين في العراق وسوريا، وأصبح وجودهم رقمًا صعبًا في معادلة معقدة.
وحتى لا ننسى، فإن النظام السوري، بإيعاز من إيران، أرخى الحبل لتنظيم القاعدة الذي بدأ بتنفيذ عمليات تفجير السيارات المفخخة في دمشق في عام 2013، ليقول للعالم إنه يواجه الإرهابيين، بعد أن تلقى هزائم موجعة من المعارضة تزامنت مع انشقاقات في جيشه. كانت هذه أولى نجاحاته في تأخير حسم المعركة لصالح المعارضة. وبكل أسف، حتى السوريون المعارضون أخطأوا بعد ذلك حينما خفضوا النبرة الوطنية، ورفعوا صوت ما يسمونه «الجهاد»، وظهرت صورهم ملتحين يحملون شعارات دينية، رغم أن قضيتهم وثورتهم اشتعلت ضد نظام ديكتاتوري في إدارته للبلاد، لا بسبب دينه أو مذهبه، فتحولت المعركة من وطنية إلى آيديولوجية، وجدت فيها إيران فرصة كبيرة للنفخ في النار الطائفية.
أوباما رحل مع وعوده التي ضربها لنا ولم تتحقق، لا في سوريا ولا العراق، تاركًا لدول المنطقة عبء حرب مكلفة على الإرهاب الذي تفشى بفعل سوء إدارته لملفات ما بعد الثورات العربية.
اليوم، أمام المعارضة السورية فرصة كبيرة لتحقيق مبتغاها، ولن تشكل القواعد الروسية التي بدأت فعليًا موسكو بإنشائها بأسًا بالنسبة لمستقبل سوريا، فالروس سيتمسكون بحقهم في حصد ما زرعوه، وإن يلام أحد على عودتهم للمنطقة فهو الرئيس الأميركي السابق، وسيكون من الصعب على المعارضة السورية مواجهة هذا الاستحقاق في هذا التوقيت الحساس، لكن تظل المعارضة في أفضل أحوالها منذ أربعة أعوام، فالروس أمسوا ينشدون الحل السياسي المدعوم من المجتمع الدولي، وكل الدول الراعية لها ستدفع بالعملية السياسية للأمام، بالتوازي مع حربها ضد الإرهاب في سوريا الذي سيضعف من مواجهة مسلحة إلى عمليات فردية واستهداف شخصيات، لكن في كل الأحوال ستكون المعارضة قد بدأت تتماسك أمام يأس نظام الأسد وحيرة الإيرانيين.
أمل عبدالعزيز الهزاني
صحيفة الشرق الأوسط