التقرير الذي أصدرته مؤسسة كارنيغي عن الحالة العربية -والذي أطلق باللغة العربية في بيروت الأسبوع الماضي، تحت رعاية رئيس الوزراء اللبناني الأسبق فؤاد السنيورة- جاء صادما في عنوانه: “انكسارات عربية: مواطنون، دول، وعقود اجتماعية”. وقد أعد التقرير باحثون ومفكرون جلهم من العرب القلقين على مستقبل دولهم ومجتمعاتهم، بمن فيهم من الجيل الجديد.
جاء التقرير ليشكل صفارة إنذار أخرى، شبيهة بصفارات الإنذار التي أطلقتها تقارير الأمم المتحدة حول التنمية الإنسانية في الوطن العربي ابتداء من العام 2002، والتي أشارت إلى فجوات واضحة في الحريات والمعرفة وحقوق المرأة تجب معالجتها، لكن الحكومات العربية لم تلق لها بالا حتى وقعت الواقعة. ويشير التقرير الحالي ليس فقط إلى استمرار هذه الفجوات، وإنما أيضا إلى التحديات الجديدة التي طرأت منذ اندلاع الثورات العربية العام 2011، كانهيار العقود الاجتماعية القديمة، وانتهاء حقبة النفط. ولا يتحدث التقرير عن الانكسارات بمعنى الهزائم بالضرورة، ولكن بمعنى التصدعات التي ستقود إلى هزائم إن لم تتم مراجعة حقيقية للسياسات الحالية كافة في معظم أرجاء الوطن العربي.
وكانت “كارنيغي” قد أصدرت دراسة مسحية العام الماضي، عرضت فيها وجهات النظر التي طرحها أكثر من مئة من الخبراء والباحثين العرب، من شتى أرجاء المنطقة. وقد وضعت الغالبية العظمى من هؤلاء الخبراء التحديات السياسية المحلية؛ ومنها النزعة التسلطية، والفساد، وغياب المساءلة، كأولويات تفوق التحديات الجيوسياسية؛ مثل النزاعات الإقليمية، والمنافسات الطائفية، والتدخلات الأجنبية. واعتبر الكثيرون ذلك حصيلة لسلسلة طويلة من الإخفاقات الجوهرية في مجال الحوكمة.
وقد مثل ذلك نقطة الانطلاق في هذا التقرير الجديد، الذي يحاول التصدي لعدد من المسائل الجوهرية التي تواجه المنطقة: لماذا لم يتحقق حتى الآن الوعد بحكم أفضل حالا، وتوفير الفرص الاقتصادية، والتعددية السياسية؟ وكيف ستكون مواصفات العقود الاجتماعية الأكثر تقبلا لمبدأ المساءلة بين المواطنين والدول؟ وكيف تستطيع دول المنطقة الاستفادة من رأس المال البشري؟
يبدو أن النظام العربي القديم الذي يتسم بأنساق التسلط السياسي والاقتصادات المعتمدة على النفطـ آيل إلى الأفول. وفيما تستحيل العودة إلى مرحلة ما قبل العام 2011، فإن ثمة خطرا من قيام أنظمة أكثر قمعا من سابقاتها. ومن المتعذر ان نشهد نهاية لهذا الوضع ما لم تتبلور سياسات كلية مختلفة لمعالجة الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي أدت بنا إلى هذه الحال.
يذكرنا التقرير أن تخيل هذه المجموعة من المفكرين لمستقبل مشرق قد يبدو أشبه بمغامرة جريئة، ويعود بنا إلى العام 1968، حين نشر الفيلسوف السوري المنشق صادق جلال العظم -الذي توفي في كانون الأول (ديسمبر) الماضي في منفاه في برلين- كتاب “النقد الذاتي بعد الهزيمة”. ومع أن هذا الكتاب المرجعي كان في ظاهره تحليلا للهزيمة العربية أمام إسرائيل في حرب 1967، إلا أنه شكل في الواقع نقدا مرا للثقافة السياسية العربية. وقد استنكر العظم لجوء القادة العرب إلى اختلاق الأعذار والتنصل من اللوم، بدلا من تحمل المسؤولية عن الهزيمة العسكرية، متهربين بذلك من فرصة التجديد الثقافي.
بعد نصف قرن، لم يتغير الكثير؛ فنجد العظم يستعرض قبل مماته حصيلة الفوران الذي شهدته المنطقة، فيردد أصداء من حملته النقدية السابقة، ويعرب عن اعتقاده أن الانتفاضات العربية قد ساعدتنا في فهم أبعاد الواقع الإقليمي كما هو: دول تهيمن عليها كيانات طائفية وإثنية بدلا من وطنية. وأنظمة تسلطية أفسحت المجال أمام اندلاع الحروب الأهلية وانهيار الدولة وانتشار الإرهاب.
رحل العظم قبل أن يتحقق حلمه بمراجعة ذاتية تؤسس لمستقبل مختلف؛ أكثر تعددية وإشراقا وازدهارا. ترى، ماذا سيقول أحفاد العظم عن أحوال المنطقة بعد خمسين عاما من اليوم؟
مروان المعشر
صحيفة الغد