الهوس والتفاهة اللذان يمتاز بهما خطاب الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب تجاه شؤون كثيرة منها «الإسلام الراديكالي» سوف يسرّعان في جرّ العالم نحو حقبة جديدة من «صدام الأديان والأصوليات». تاريخ البشر، قديماً وحديثاً، حافل بحقب دموية تسبب فيها قادة رعناء مهووسون بخطابات دينية أو شعبوية أو شوفينية، يقودون شعوبهم والعالم إلى بحار من الدماء. عندما يتحدث زعيم شعبوي لقوة عظمى وصل إلى الحكم على رافعة الشعارات الغرائزية التي تمجد الأنا الجماعية وتطهرها وتشيطن الآخر وتجرمه، فعلى العالم توقع الأسوأ.
تاريخ البشر يقول لنا، أيضاً، أن استغلال الدين وتوظيفه وتحويره هي الطريقة الأقصر للوصول إلى قلوب عامة الناس وتثويرهم وحشدهم كالقطيع وراء الزعيم أو الحزب أو الدولة التي تقوم بالتوظيف. خطورة خطاب ترامب لا تحتاج إلى نقاش مُعمق، وبعض من تلك الخطورة يتأتى من تراكم إدراك غربي وغير غربي خلال العقود القليلة الماضية يحصر العنف الديني واستغلال الدين في المسلمين والإسلام، بسبب صعود التنظيمات الأصولية الإسلاموية التي تنسب نفسها للدين والجهاد، وآخر تمظهراتها «القاعدة» و «داعش». هذا الإدراك الغربي المُختزل والتسطيحي يخلق البيئة المناسبة لتبني سياسات عنصرية وفجة وحربية أيضاً ضد الآخر. على ذلك، من الضروري معرفياً وسياسياً التوقف ملياً وموضعة العنف المنسوب للدين في سياقاته التاريخية من ناحية، وإدراك اتساع نطاق تطبيقاته لتشمل معظم إن لم يكن كل الأديان والثقافات. لا تقدم هذه السطور أية مرافعة اعتذارية للعنف الإسلاموي الذي يستخدم الدين من قريب أو بعيد، بل تدينه بلا تردد ومن دون «لكن»، بيد أنها توسع النقاش وتوجه الاتهام إلى الغرب أيضاً حيث تاريخه القديم والقروسطي والحديث حافل باستغلال الدين ويفيض بالعنف الديني الدموي. لا يحق لترامب ولا لأي زعيم غربي أن يتغاضى عن تواريخ عريضة في إبادة الشعوب الأصلية سواء في القارة الأميركية نفسها، الشمالية والجنوبية، وكذا في بقية مناطق العالم حيث استخدم الدين لمصلحة سياسة الاستعمار والاستئصال وعلى نطاق واسع.
في كتاب كلاسيكي رصين صدر أواخر القرن الماضي بعنوان «الإنجيل والاستعمار»، The Bible and Colonialism تصدى بروفسور الإلهيات مايكل بريور في جامعة ساري آنذاك إلى العلاقة الوثيقة بين العديد من المشروعات الاستعمارية الغربية والإنجيل. درس بعمق المسوغات الدينية التي ساقها الاستعمار الأبيض لجنوب أفريقيا ولأميركا اللاتينية ولفلسطين، وأبرز آليات تبرير العنف بحدوده القصوى ضد الشعوب الأخرى. وفق المنظور الديني المُحور والمُؤول، فإن تلك الشعوب غير المسيحية، سواء كانت الهنود الحمر في أميركا والسكان الأصليين في أميركا اللاتينية ونظائرهم في أفريقيا بطولها وعرضها، ثم العرب في فلسطين، كانت هذه الشعوب محكومة بالخطايا الأبدية، ولذا كان عليها أن تخضع لخيارات القوة المسيحية البيضاء: إما أن تتطهر عبر التبعية للاستعمار، وإما أن تواجه خيار الإبادة. وروجت الخطابات المرافقة للقوة الباطشة آنذاك بأن الاستعمار الغربي كان تعبيراً عن انتصار الرب ورغبته في توسيع مملكته، وكل من يواجه هذه الرغبة عليه تحمل النتائج الإبادية.
وإذا كانت الكتب والدراسات التي تعرضت للنازية وهتلر والهولوكوست تكاد لم تُبق شيئاً إلا ونبشته وفككت جوانبه، إلا أن مسألتَي الجذر الديني للفكر النازي واستخدام هتلر الإنجيل ظلتا من أقل الجوانب بحثاً. وهذا النقص هو ما دفع راي كومفورت Ray Comfort للعودة إلى تاريخ هتلر وفكره وتأويلاته وتوظيفه الدينَ ثم إصدار كتابه المهم العام الماضي بعنوان «هتلر والرب والإنجيل»: Hitler, God and the Bible. الفكرة الأساسية التي يطرحها كومفورت في كتابه ويثبتها عبر العودة إلى حياة وأفكار وخطابات وممارسات هتلر هي أنه من دون الاعتماد على المسيحية والتأويل الديني وليّ أعناق النصوص واستغلالها ما كان لهتلر ولا لدولة الرايخ أن يصلا إلى ما وصلا إليه، أو أن يسوغا إبادة ستة ملايين يهودي في المحرقة. يجادل كومفورت بأن هتلر كان مقتنعاً بأن ما يقوم به من «غربلة» للجنس البشري تفرض ضرورة التخلص من الأجناس الرديئة، وترقية «الجنس الآري الأبيض» فوق الجميع، هو ترجمة لإرادة الرب وأن تلك الغربلة مسندة بمسوغات إنجيلية. يحتاج الكتاب إلى وقفة خاصة به، لكن على الأقل خلاصته المدهشة يجب أن تخفف من غرور الخطاب الغربي المعاصر الذي يحصر ممارسة توظيف الدين لمصلحة العنف بالمسلمين.
لنتأمل الأيام الأولى من حكم ترامب والقرارات التي وقعها كي تعطينا فكرة أولية حول نزعة الاستئصال والإبادة تجاه الأخر، سواء أداخلياً مثل إعلان حرب ضد فقراء أميركا عبر إلغاء نظام التأمين الصحي (اوباما كير) الذي استهدف الشرائح الفقيرة، كما التضييق على المهاجرين غير البيض، مسلمين وغير مسلمين، أو خارجياً مثل إقامة سور يفصل الولايات المتحدة عن المكسيك وإجبار هذه الأخيرة على تحمل نفقاته وغير ذلك كثير. ليس العنف والتطرف وتوظيف الدين حكراً على المتطرفين في بلدان العالم العربي والإسلامي، وهذا مرة أخرى ليس قبولاً بهم ولا دفاعاً عن إجرامهم. فهؤلاء يبدون وكأنهم هواة مقابل ما تقدمه لنا التجربة التاريخية حول نفس الممارسة وتوظيف الدين سواء في التاريخ الأوروبي والغربي القديم والحديث، وكما تمثل أيضاً خلال القرن الماضي في التجربة اليهودية الصهيونية التي بررت التطهير العرقي الذي شنته ضد الفلسطينيين بمسوغات دينية وتوراتية.
خالد الحروب
صحيفة الحياة اللندنية