محاولات إيران الدؤوبة لمد نفوذها وتعزيز أوضاعها وزيادة قدراتها وأهميتها وتصدير ثورتها وأيديولوجيتها في كافة دول الخليج العربي ستستمر، وسيتم ذلك انطلاقاً من العراق أولاً، ثم ستمتد إلى بلاد الشام جميعها، سوريا ولبنان والأردن وفلسطين تمدداً إلى البحر الأبيض المتوسط ثم إلى ما وراء ذلك لو استطاعت إليه سبيلاً. هذا هو منطق التفكير الإيراني كما نقرؤه، وهو أمر لو تمكنت إيران من تحقيقه سيحتاج من جميع العرب العمل على مقاومته بشراسة، فهو فكر يصدر عن قوم تغلب على سلوكياتهم الرغبة في استخدام القوة إن لم يتم شكمهم وتحجيمهم، وتعودوا النظر إلى ذاتهم على أن بلادهم ذات أهمية فريدة منذ قورش الأكبر، وجاء العرب كي يقضوا على تلك العظمة ويحولوهم إلى تابعين على مدى الألف والأربعمئة عام التي انقضت.
وبغض النظر عن حقيقة أن العرب لا يرغبون في التصادم مع إيران في هذه المرحلة فإنه لا يوجد شيء محدد سلفاً أو حتمي، فقد يقع أمر ما أو قد يقع ما هو عكسه، ضمن تداعيات هذا الصدام المحتدم المرتبط بالثقافة السياسية والاجتماعية، وبالمصالح والهوية والبناء والأمن الوطني. وإذا ما كان منحانا هو التفاؤل في علاقاتنا المستقبلية مع إيران فإن التعاون القائم على أسس أمر ممكن، والصدام يمكن تجنبه. إن هذا لا يزال هو الدرس الذي من المفترض أن يكون أصحاب العمائم في إيران قد تعلموه من مآسيهم التي ورثتها لهم الحروب والكوارث التي أدخلوا إيران فيها، رغم أن طبيعتهم هي تجاهل الآخرين واستصغارهم. إن التحدي الآن هو كيف يمكن خلق إطار عمل يمكن ضمنه السيطرة على الصراعات الإقليمية في الخليج العربي، خاصة بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي. إن أسس هذا البناء الإطاري قائمة لو أن إيران تخلت عن أوهام العظمة التي تدعيها لنفسها، لكن الأمر الصعب في المسألة هو حقيقة كيف يمكن لإيران جعل ذلك فعالاً وعملياً وبناءً عن طريق التعاون مع دول المجلس انطلاقاً من نوايا حسنة تتبناها.
إن كلاً من دول المجلس وإيران يمكن لهما لعب دور حاسم وبناء في تحقيق ذلك، لكن يبدو أن تاريخ النصف الأول من القرن الحادي والعشرين سيكون متسماً بكيفية رغبة الطرفين في تجاوز عدم الثقة القائم، وتجاوز أولياتهما الوطنية على المدى القصير والانتقال إلى حس جماعي أكثر سعة أفق لتحقيق المصالح. وينطلق مثل هذا القول من أن من مصلحة إيران أن تتصالح مع نفسها أولاً في سياستها الخارجية، وأن تتصالح مع دول المجلس ثانياً، وأن تعرف حجمها الحقيقي المحدود في شؤون الخليج العربي، فرغم كونها أكثر دول الخليج العربي اكتظاظاً بالسكان، إلا أنها في نظر المجتمع الدولي ودول المجلس بشكل خاص، ليست مرشحة لكي تصبح المهيمن الأوحد في الخليج العربي.
ورغم ما تبثه إيران من دعاية إعلامية وشعارات رنانة بأنها القوة الإقليمية المهيمنة، فإنها تعاني وحتى النخاع اقتصادياً، وهي على الصعيد العسكري لا تجاري جيوش دول المجلس تكنولوجياً ومن حيث قوة الأسلحة المتطورة والطيران المتقدم والإعداد القتالي واللوجستي والبنى التحتية والإدارية المتطورة. ومع قيام إيران بتحويل الصراع لكي يصبح قائماً على خطوط طائفية ومذهبية فإن الأيديولوجيا التي تتبناها والقائمة حول الفكر الشيعي الإثنا عشري وولاية الفقيه لا تصلح أسساً للهيمنة في منطقة ذات أغلبية سنية كبيرة. وبعد مرور أربعة عقود منذ قيام الثورة في إيران عام 1979، من المفترض أن يكون قادة إيران مدركين بأنه لا أمل لهم في تصدير ثورتهم إلى دول المجلس. إن هذه الحقيقة تتأكد يوماً بعد آخر على ضوء ما حدث من قلاقل في بعض الدول العربية الأخرى حيث لم يتقمص أي ممن أشعلها الطريقة الإيرانية، أو تتح مجالًا للنفوذ الإيراني الحقيقي. إن عدم الإدراك هذا ينعكس في سياسات إيران الإقليمية التي تقوم على حماية بعض النظم العربية التي لا شعبية أو شرعية لها كـ«البعث» في سوريا والحوثيين في اليمن، فالأول يتضاد إيديولوجياً مع إيران، والحوثيون انقلابيون ضد شرعية ارتضاها الشعب اليمني.
عبدالله جمعة الحاج
صحيفة الاتحاد