لا يتمتع نيكولا ميكيافيللي، المفكر الإيطالي الشهير، بسمعة طيبة بين جمهور السياسيين على رغم أن جلهم، بعلم أو من دون علم، إما من اتباعه أو من مريديه. فالرجل الذي نحت مقولة «الغاية تبرر الوسيلة» كشف الغطاء عن عالم يمور بالدسائس والمؤامرات والشر، وأسقط أقنعة الفضيلة والنبل والاستقامة عن واقع تديره يد القوة والخديعة والغدر والخيانة. لم يعقد مكيافيللي صفقة مع الشيطان على غرار فاوست، لكنه تقدم بكتيب اعتبره علماء الأخلاق، لاحقاً، ورقة عمل لا تصلح إلا للشيطان وللطغاة الأشرار المتحالفين معه. وميكيافيللي متهم في سلوكه العام وضميره السياسي بسبب من انتهازيته الرخيصة وانحرافه عن جادة الصواب ورفضه جمهورية افلاطون الفاضلة.
بيد أن ميكيافيللي، الذي مات وهو يمني النفس بتقلد منصب في بلاط امراء الميديشي، ترك وراءه كتابه الذي يظل حياً على رغم كثرة الذين رجموه بالحجارة. بل تسامى كتابه الملعون ذاك الى رتبة اصبح معها، عند بعض المدارس الفكرية، إنجيل الرجل السياسي الحديث.
المكافيللية ظاهرة مرذولة في الأزمنة الحديثة، وربما كانت أقرب المدارس الفكرية إليها نسباً المدرسة التي تُسمي نفسها «الريال بوليتيك». و «الريال بوليتيك» هذه لامعادل لغوياً عربياً أو إنكليزياً لها، فهي مصطلح ألماني لمدرسة تتقدم بنظرية تقول إنه لا ينبغي أخذ الأخلاق في الاعتبار كثيراً عند اعداد الحسابات السياسية والإستراتيجيات، وأنه على القوي أن يهيمن، بلا رحمة أو شفقة، على الضعيف. ثمة من طابق بينها وبين الواقعية السياسية، منتبهاً إلى أن الأخيرة كانت أكثر حداثة وفصاحة وتركيباً فلسفياً من سالفتها.
تقابل المركنتيلية، في الاقتصاد، الميكيافيللية، في السياسة، وتناظرها، من دون أن يكون لها نبي يعادل مكيافيللي ولا كتاب مقدس يشبه كتاب»الأمير»، إلا أنها هي أيضاً مرذولة بين ظهراني الاقتصاديين على رغم أنها كانت المدرسة الاقتصادية الوحيدة التي هيمنت، في شكل كامل وحاسم، على أوروبا من القرن السادس عشر حتى القرن الثامن عشر. لم تعط المركنتيلية للأخلاق ذاك الحيز التي كانت تستحقه في الاقتصاد، فابتنت عالماً مثالياً يحمي طبقة التجار وتركت البسطاء وحيدين لكي تطحنهم آلة السوق العمياء وتسحقهم احذيتها.
تلخصتمس المركنتيلية، التي سماها آدم سميث «القومية الاقتصادية»، في القرن الثامن عشر، لتعود وتطل برأسها من جديد، في الثلاثينات، مع «الكساد الكبير» الذي أصاب الولايات المتحدة وامتد الى عقيدة المركنتيلية في الإيمان بأن الدولة ملزمة بتصميم نظام اقتصادي يحمي التجارة الوطنية ويحارب التجارة الأجنبية، ويفرض الحماية الجمركية، ويزيد الصادرات ويقلص الواردات.
غربت ش بقية دول العالم، فانتشرت «الحمائية» الاقتصادية وانهارت التجارة العالمية بعدما تقلصت بنسبة الثلثين من حيث القيمة. وفرت المركنتيلية، في سياق الأزمة الاقتصادية الخانقة، أرضية خصبة لصعود الفاشية والنازية. تقول مجلة «الإيكونوميست» ان الصين وألمانيا هما، حالياً، موضع حسد كبير بسبب نجاحهما في احداث فائض تجاري كبير لمصلحتهما. وربما يمكن اضافة اليابان اليهما. لم تشر المجلة الى ان ذاك الحسد يجيء من الترامبيين الذين بدأوا في بعث عقيدة «القومية الاقتصادية»، أو المركنتيلية، من جديد.
المشهد الكوني الراهن يوحي بعودة ميكيافيللي متأبطاً ذراع مركنتيلية حديثة فجة، مقنّعة حيناً وسافرة حيناً آخر. فلقد انقضى ذلك العصر الذي كانت فيه الإيديولوجيات الكبرى، على تهافتها وزيفها، تمنح الإنسان يقيناً ما بقدر إنساني واحد مشترك. وعاد التنوير والقوة الأخلاقية الدافعة له الى الصفوف الخلفية.
لقد شرّعنا، من جديد، العيش في عالم الذئاب.
أسامة مصالحة
صحيفة الحياة اللندنية