في 4 شباط/فبراير، أعلنت «قوات سوريا الديمقراطية» – التي هي مجموعة “مظلة” من المتمردين تعمل بقيادة «حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردي – إطلاق مرحلة جديدة [من العمليات] في إطار المساعي لاستعادة الرقة. وتهدف أحدث العمليات التي نفذتها «قوات سوريا الديمقراطية» إلى قطع الاتصالات بين الرقة ودير الزور مع الاستمرار في التقدم نحو “عاصمة” تنظيم «الدولة الإسلامية» من الشمال والغرب. ويتماشى الإعلان مع تصريح الإدارة الأمريكية الجديدة عن رغبتها في تسريع وتيرة الحرب ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» عبر التحرك سريعاً باتجاه الرقة. وكان الرئيس ترامب قد وقّع قراراً تنفيذياً في كانون الثاني/يناير، منح بموجبه البنتاغون شهراً واحداً لتقديم خطة عمل لمحاربة التنظيم. وقد يعني ذلك زيادة دعم «قوات سوريا الديمقراطية» التي كانت الخصم الرئيسي للجماعة الإرهابية على الأرض في سوريا لعدة أشهر.
عزل الرقة
نظراً لموقع الرقة على الضفة الشمالية لنهر الفرات، قد يؤدي الهجوم الجديد إلى عزل المدينة عن كامل الأراضي الخاضعة لسيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية»، وليس فقط عن دير الزور. وكانت سلسلة من الغارات الجوية التي شنّها التحالف بقيادة الولايات المتحدة في أيلول/سبتمبر قد دمرت كافة الجسور المتبقية العابرة للفرات بين الحدود العراقية وشرق الرقة؛ بالإضافة إلى ذلك، دمرت غارات إضافية جسريْ المدينة في 3 شباط/فبراير. ونتيجة لذلك، ستصبح الرقة محاصرة عندما تصل «قوات سوريا الديمقراطية» إلى الفرات، في الوقت الذي يشكّل فيه النهر حاجزاً طبيعياً يحاصر تنظيم «الدولة الإسلامية» في المدينة. وبالطبع، بإمكان مقاتلي التنظيم عبور النهر بالقوارب، لكنهم سيكونون أهدافاً سهلة للطائرات الأمريكية ولن يكون بإمكانهم حمل معدات ثقيلة.
وفي المقابل، تملك «قوات سوريا الديمقراطية» مراكب لنقل العربات المدرعة وربما دعم مروحيات أمريكية لنقل الجنود، مما يُحتمل أن يَسمح لها ذلك شن عمليات عبر النهر إذا دعت الحاجة. وكانت واشنطن قد وفرت لها العربات المدرعة من خلال قاعدة “رميلان” في شمال شرق البلاد.
وفي إطار هذه الإستراتيجية، ستحاول «قوات سوريا الديمقراطية» من دون شك الاستيلاء على ما تبقى من “سد الثورة” فضلاً عن سد ثانٍ هو “القديران” الذي يبعد عشرة كيلومترات باتجاه مجرى النهر. وتسيطر «قوات سوريا الديمقراطية» بالفعل على الجانب الشمالي من “سد الثورة”، لذلك هناك فرصة ضئيلة لاستخدامه من قبل تنظيم «الدولة الإسلامية» كطريق للهروب عبر النهر. غير أن السيطرة الكاملة على السدّين لا تزال شرطاً مسبقاً وضرورياً للهجوم على الرقة بسبب خطر قيام تنظيم «الدولة الإسلامية» بتدميرهما وإحداث فيضانات مدمرة على نطاق واسع في مجرى النهر. وعلى صعيد أكثر عملية، لا يزال “سد الثورة” المعبر الوحيد السليم في الجزء الخاضع لسيطرة التنظيم من النهر، وهو يوفّر الري والكهرباء للمحافظة بأكملها وللمناطق المجاورة لها. وفور تحرير الرقة، ستحتاج السلطات الجديدة إلى ضمان سير حياة المدنيين بشكل طبيعي ومنع حصول أزمة إنسانية تقلب السكان المحليين ضدها؛ ومن الضروري استمرار عملية “سد الثورة” لتحقيق هذا الهدف.
المزايا العسكرية لـ «قوات سوريا الديمقراطية»
خلال خوضها الهجوم الجديد، ستستفيد «قوات سوريا الديمقراطية» من عدة مزايا إستراتيجية. أولاً، تنخرط قوات تنظيم «الدولة الإسلامية» في القتال على عدة جبهات في آن واحد، بما فيها الموصل في العراق، والباب إلى الغرب، وتدمر ودير الزور إلى الجنوب. وقد أصبحت حالياً جميع الجهات الفاعلة الأخرى في سوريا والعراق متحدة ضد التنظيم. وعلى الرغم من أن روسيا وتركيا وإيران والولايات المتحدة وحلفاءهم المحليين لم يقيموا غرفة عمليات مشتركة لتنسيق تحركاتهم، إلا أنهم جمّدوا خلافاتهم على ما يبدو بهدف التركيز على تنظيم «الدولة الإسلامية». وفي سوريا، لم تعد تركيا تطالب بمنبج الخاضعة لسيطرة «قوات سوريا الديمقراطية». كما أن الأكراد والحكومة المركزية في العراق لم يعودا يقاتلان على “أراضٍ متنازع عليها”، على الأقل في الوقت الراهن.
ثانياً، وضَع الهجوم الناجح الذي شنّته «قوات سوريا الديمقراطية» في كانون الثاني/يناير غرب الرقة، هذه القوات في موقع متقدم للقيام بالتحرك القادم. فمن “سد تشرين” حتى “عين عيسى”، سيطرت هذه القوات على كامل الضفة اليمنى من “بحيرة الأسد” في غضون شهر، فتقدمت إلى ما هو أبعد من الخطوط الأمامية التي وصلت إليها في كانون الثاني/يناير 2016 وتوقفت على بعد أربعين كيلومتراً من الرقة (راجع الخريطة). وفي حين تعثّر هجوم الجيش التركي وحلفاؤه المتمردون في «الجيش السوري الحر» على الباب منذ منتصف تشرين الثاني/نوفمبر، أثبتت «قوات سوريا الديمقراطية» مرة أخرى فعاليتها في أرض المعركة. وقد يُقنع هذا التعارض الصارخ إدارة ترامب أن «قوات سوريا الديمقراطية» وحدها قادرة على استعادة الرقة، بغض النظر عن احتجاج أنقرة على ذلك. وكانت إدارة أوباما قد توصلت إلى القناعة نفسها خلال شهرها الأخير في الحكم، كما أن الولايات المتحدة قدمت شحناتها الأولى من المركبات المدرعة إلى «قوات سوريا الديمقراطية» في 31 كانون الثاني/يناير عبر مطار “رميلان” رغم حدوث التغيير في الإدارة الأمريكية.
ثالثاً، شجع التراجع الحاد لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» وزيادة واشنطن الظاهرية للمساعدات العسكرية، على اندماج المزيد من رجال القبائل العرب مع «قوات سوريا الديمقراطية» – وفي الواقع كانوا كثيرين إلى درجة أنه أصبح يطلق الآن على هذه القوات تسمية «التحالف العربي السوري» في بعض الأحياء. وفي 8 كانون الأول/ديسمبر، أشار المتحدث باسم التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الكولونيل جون دوريان إلى أن حوالى 13 ألف عنصر من مقاتلي «قوات سوريا الديمقراطية» البالغ عددهم 45 ألف شخص كانوا من العرب. غير أن تقديرات أخرى تشير إلى أعداد أدنى بكثير، ولكن إذا كانت أرقام دوريان دقيقة، فهي تمثّل زيادة كبيرة منذ تأسيس «قوات سوريا الديمقراطية» في تشرين الأول/أكتوبر 2015، عندما كان العرب يشكلون فقط 5 آلاف عنصر من إجمالي عدد المقاتلين البالغ 30 ألف شخص.
رابعاً، يبدو الآن أن السكان المحليين الخاضعين لسيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية» يرفضون الجماعة بأعداد أكبر. ففي البداية، مثّل التنظيم عودة درجة معيّنة من الأمن والحياة الطبيعية للكثير من السوريين (على الأقل أولئك الذين احترموا تطبيقه العنيف للشريعة في كثير من الأحيان). وفي عام 2014، على سبيل المثال، أفرغت الجماعة صوامع القمح لتوفير الخبز بأسعار رخيصة وفرضت قيوداً على أسعار الضروريات الأساسية. إلّا أن الوضع تدهور بشكل كبير في الوقت الراهن. فقد عجز تنظيم «الدولة الإسلامية» عن إعادة ملء الصوامع التي أفرغها، وارتفعت الأسعار، وأثبت المسؤولون في الجماعة أنهم فاسدون تماماً على غرار أسلافهم. كما أن أموال الجماعة أخذت تنضب، لذلك بدأ يفر منها بعض أفرادها الذين انضموا إليها لأسباب مالية. غير أنه في الوقت الراهن إن أي انتفاضة شعبية ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» تبقى مستبعدة نظراً لاستمرار حكمه الإرهابي، لكن يمكن توقُّع دعم القبائل العربية المحلية وإنضمامها إلى الفريق الأقوى عندما يحين الوقت.
خطوة أخرى نحو سوريا فيدرالية؟
خلافاً لما حدث في العراق، لا يخشى بشكل خاص العرب السنّة في الجانب السوري من وادي الفرات من سيطرة الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران خلال حقبة ما بعد تنظيم «الدولة الإسلامية»، أو حتى من جيش وطني شيعي. وبدلاً من ذلك، يتمثّل مبعث قلقهم الرئيسي في وجود ميليشيا كردية لفترة طويلة، وهو ما يقلق بعض أفراد القبائل من أن ذلك قد يسهّل سيطرة كردية عامة على أراضيهم.
إلّا أن 99 في المائة من سكان هذا الجزء من الوادي هم من غير الأكراد، وبالتالي ليس لدى «حزب الاتحاد الديمقراطي» سبباً وجيهاً يدعوه لضمّه إليه. ويبدو أن القبائل العربية تدرك هذا الأمر؛ فهي متأكدة إلى حد كبير من أنه حتى إذا دعمت الحملة الكردية الحالية، ستعود القوة المحلية إليها في النهاية. وفي الواقع، قد يكون هذا جزءاً من خطة «حزب الاتحاد الديمقراطي» في حملته الخاصة بالرقة: أي مساعدة القبائل العربية على تحرير نفسها من تنظيم «الدولة الإسلامية»، وإذاقتها طعم الاستقلال السياسي المحلي، وبالتالي جعلها أكثر تعاطفاً مع دعوات الأكراد لنظام فدرالي لامركزي في سوريا. ولتحقيق هذا الهدف، من المرجّح أن يهدف «حزب الاتحاد الديمقراطي» إلى ضمان عدم تمكن الجيش السوري من العودة إلى المنطقة حتى لو امتلك بشار الأسد وحلفاؤه القوى البشرية، وهو ما ليس لديه الآن.
نقطة ضعف الأسد في الشرق
يواجه الجيش السوري صعوبات في دير الزور، حيث يتعرّض الجانب الذي يسيطر عليه النظام في المدينة المحاصرة منذ وقت طويل لهجوم متجدد من تنظيم «الدولة الإسلامية» منذ منتصف كانون الثاني/يناير. وقد تمّ الآن عزل المطار – خط الحياة الوحيد لقوات النظام المحلية – عن المدينة، وفشلت المساعي لعكس هذه الحالة حتى الآن، بما في ذلك اللجوء المتزايد إلى مقاتلي «حزب الله» والقوات الخاصة المعتمدة على المروحيات والقصف الروسي.
وحتى إذا تمّ صدّ الهجوم الحالي، يحتاج النظام إلى حل على المدى الطويل لأزمة دير الزور. وسيمثّل سقوط المدينة كارثة بالنسبة للأسد – حيث ستتعرض الحامية لمجزرة كما سيعاني السكان المدنيون (الذين تقدّر الأمم المتحدة عددهم بنحو 93 ألفاً) من أعمال انتقامية دموية. ووفقاً لذلك، لا خيار آخر أمام الأسد وحلفائه سوى الموافقة ضمنياً على قيام «قوات سوريا الديمقراطية» بتنفيذ هجوم بدعم من الولايات المتحدة ضدّ الرقة، ولو بأمل تخفيف الضغوط عن دير الزور فقط. ومع ذلك، سيتوجب عليهم الاستعداد لاحتمال توجّه قوات تنظيم «الدولة الإسلامية» المنسحبة من الرقة جنوباً واجتياحها دير الزور.
المشكلة المدنية لقوات التحالف
يشكل اتخاذ قرار بشأن كيفية التعامل مع مدنيي الرقة البالغ عددهم 300 ألف شخص، التحدي الرئيسي الذي يواجه «قوات سوريا الديمقراطية» وداعميها الدوليين. ولطالما استخدم تنظيم «الدولة الإسلامية» المدنيين كدروع بشرية لردع القصف الجوي وتجنّب الحصارات الشديدة. ففي منبج على سبيل المثال، احتجز التنظيم المدنيين في منازلهم من خلال تلغيم الشوارع وإطلاق النار على كل من حاول الفرار. وكان على «قوات سوريا الديمقراطية» استعادة المدينة منزلاً بمنزل، متكبدةً خسائر فادحة. وفي النهاية، سُمح للعديد من مقاتلي تنظيم «الدولة الإسلامية» بالفرار من خلال اختلاطهم بعدة آلاف من المدنيين الذين غادروا المدينة.
وبالتالي، تتمثّل إحدى الأولويات في الرقة بتشجيع المدنيين على المغادرة قبل بدء الهجوم الأخير. ويعني ذلك بلوغ أطراف المدينة بسرعة وتأمين ممرات إنسانية يمكن من خلالها هروب السكان المحليين، باستفادتهم من الفوضى الناتجة عن النزاع. فضلاً عن ذلك، لا بدّ من إقامة مخيمات على المدى الطويل في المناطق الريفية المحيطة من أجل إيواء النازحين بسبب المعارك، نظراً لأنه قد لا يتمكنوا من العودة إلى منازلهم لأجل غير مسمى.
وما أن يبدأ الحصار الرئيسي للرقة، ستتطلب قواعد الاشتباك الغربية بشأن المدنيين حرباً مدنية طويلة. ومن أجل تجنّب أي مجزرة والإسراع في تحرير المدينة، سيتعيّن على الأرجح قيام «قوات سوريا الديمقراطية» وحلفائها بالتفاوض بشأن إخراج بعض مقاتلي تنظيم «الدولة الإسلامية»، كما حصل في منبج.
فابريس بالونش
معهد واشنطن