بعد انكماش اقتصادي استمر أكثر من عامين؛ يبدو أن روسيا قد حققت بعض مظاهر الاستقرار. ورغم أن النمو الاقتصادي عام 2017 من المتوقع أن يبلغ 11% فقط، فقد تبخرت كل المخاوف المتعلقة بزعزعة الاستقرار الاقتصادي، والتي انتشرت في البلاد منذ الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم عام 2014 الذي واجهه الغرب بفرض عقوبات شديدة على روسيا.
ويبدو أن الجمع بين التفاؤل في مجال السياسة الخارجية وتوفير أسباب الراحة المادية للروس والقمع الداخلي إكسيرٌ قوي المفعول.
تماما كما كان الحال في عصر ليونيد بريجينيف؛ تُلقي السياسة الخارجية بظلالها الكثيفة على السياسة الداخلية. ومع ذلك، وخلافا لعصر بريجينيف، فالآفاق الروسية واعدة بعد أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب صراحة رغبته في تحسين العلاقات مع الكرملين، وسيلتقي كما قيل بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في شهر يونيو/حزيران القادم.
وقد تصبّ أيضا انتخابات الرئاسة الفرنسية -المقرر تنظيمها في أبريل/نيسان القادم- في صالح روسيا. فمرشح يمين الوسط فرانسوا فيون ومرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان صديقان حميمان لبوتين، رغم أن مرشح الوسط إيمانويل ماكرون -وهو ليس صديقا لبوتين- يتطلع هو الآخر للفوز في الانتخابات.
أما انتخابات الرئاسة الروسية -المقررة في شهر مارس/آذار- فلا تتسم بهذا الطابع المصيري الحاد، إذ من غير المتوقع أن تأتي بأي تغيير، فسيُعاد انتخاب بوتين رئيسا وسيظل ديمتري مدفيدف رئيسا للوزراء. ويبدو أن هذا مقبول من جانب معظم الروس، أو في أقل تقدير من جانب المرفهين من سكان موسكو.
“الانتخابات الرئاسية الروسية -المقررة في شهر مارس/آذار- لن تشهد تحولا مصيريا حدا، إذ من غير المتوقع أن تأتي بأي تغيير، فسيُعاد انتخاب بوتين رئيسا وسيظل ديمتري مدفيدف رئيسا للوزراء. ويبدو أن هذا مقبول من جانب معظم الروس، أو في أقل تقدير من جانب المرفهين من سكان موسكو”
فلم تكن البنية التحتية لموسكو أبدا أفضل حالا مما هي عليه الآن: حيث تتباهى المدينة بشبكة مترو رفيعة الأداء تم توسيعها مؤخرا، وبمطارات حديثة ونظيفة وعالية الكفاءة.
وأعيد النظام حتى إلى مواقف السيارات التي كانت في السابق غارقة في فوضى، وبانتشار خدمات استئجار السيارات بسرعة وبأسعار منخفضة تناقصت الحاجة إلى مواقف سيارات. ويمكن للمقيمين في المدينة الآن زيارة متاجر تسوق فاخرة وجيدة، وشراء أي أطعمة يشتهونها (باستثناء الجبن الأوروبي) من محلات بقالة راقية.
لا شك أن هناك من الروس من هم غير راضين عن الأوضاع الراهنة، مثل ممارسات جهاز الأمن الاتحادي الهائل البأس. ولقد خفضت مؤسسة فريدوم هاوس مؤخرا مكانة روسيا من حيث توفر الحقوق السياسية إلى أدنى مستوى ممكن.
وخيم شبح القمع بوضوح على أعمال “منتدى جيدار” في الشهر المنصرم، وهو منتدى تنظمه سنويا الأكاديمية الرئاسية الروسية للاقتصاد الوطني والإدارة العامة، ويسمى “جيدار” تكريما لإيغور غيدار الاقتصادي والسياسي والمؤلف الروسي ورئيس الوزراء إبان حكم الرئيس السابق بوريس يلتسن.
يجتمع في المنتدى سنويا آلاف من علماء الاجتماع الروس ومئات العلماء الأجانب طوال ثلاثة أيام لمناقشة السياسة الاقتصادية. ويَظْهَر وزراء الحكومة في اجتماعات النقاش هذه مسترخين منفتحين وأكفاء، لكنهم يحرصون على تجنب الإدلاء بتصريحات صارخة.
وهذا العام، جرى التطرق إلى المشاكل الجوهرية التي تعاني منها روسيا -كغياب حقوق الملكية العقارية ودور القانون والديمقراطية- بشكل رئيسي من جانب وزير المالية السابق ألكسي كوردين، ولكن برفق وبشكل عابر. وكُرِّسَت كالعادة معظم لقاءات النقاش لتناول تفاصيل سياسات الاقتصاد الكلي الكفء للبلاد. أما المؤسسة الاقتصادية الروسية العملاقة فظلت بعيدة للغاية عن إثارة أي ضجيج بشأنها.
وبينما قد لا ينطوي موقف الوزراء على أي جديد، فقد بعثت منتديات غيدار السابقة الأمل -إن لم يكن الترقب والتطلع- في بلورة بعض التحدي للنخبة الحاكمة. ويشارك الاقتصاديون الأكاديميون من موسكو باهتمام في المنتدى كل عام آملين سماع شيء راديكالي، أو حتى شيء يتسم ببعض الجرأة، رغم أنهم أنفسهم غير راغبين في التحدي.
وفي منتدى العام المنصرم، تصورت لجنة تضم عشرة من أبرز المحللين السياسيين الليبراليين الروس -وهي إحدى الآليات المنتظمة لعمل المنتدى، وأشارك فيها- أن شيئا من التحدي في سبيله للظهور. بل إن بعض أعضاء اللجنة تنبؤوا حتى بنشوء بعض التحدي للنظام، قائلين إن عضوا من المعارضة قد يُنتخب في الدوما (البرلمان الروسي)، أو إن الصعوبات الاقتصادية قد تفضي إلى اضطرابات اجتماعية.
ولم تتحقق أي من هذه التوقعات؛ فقد شاركت قلة من الليبراليين الروس ذوي التوجه الأوروبي في تصويت انتخابات الدوما، وأبدى المحافظون من جنوب وشرق البلاد قدرا أكبر جدا من الحماس للمشاركة في الانتخابات. أما لجنتنا فيبدو أنها قد بالغت في تقدير تأثير النتائج الاقتصادية، وقللت من تأثير دور الحرب والقمع في تعزيز وحدة القوى الداعمة لبوتين وسلاطينه الإقليميين.
“تبدو روسيا قوة تتمتع بمكانة جيوسياسية راسخة، بيد أن الأمور ليست دائما كما تبدو عليه. فعلى سبيل المثال -ورغم أن دعم ترمب لعلاقات أوثق يبدو أمرا يصب في صالح روسيا- فإن أحد المقومات الرئيسية للنهج القومي الذي يتبناه بوتين هو قدرته على ترسيخ دراما الحرب الباردة”
وفي الحقيقة، إن الشعور المهيمن في أوساط الروس هو أن غزو بوتين لأوكرانيا وضمه للقرم كان أمرا مفيدا لروسيا. كان “ضربة معلم” من جانب بوتين، فبتحويل أوكرانيا إلى عدو ضعيف تعصف به الصراعات تمكّن بوتين من تخفيف حدة المشاعر المناصرة للديمقراطية في روسيا، والمستمدة جزئيا من تحرك أوكرانيا صوب الاتحاد الأوروبي، ومن إثارة النزعة القومية لدى الروس على حد سواء.
وهناك تطور آخر في السياسة الخارجية ربما أفاد بوتين؛ فوفقاً لتاتيانا فوروجيكينا (الأستاذة بجامعة موسكو للعلوم الاجتماعية والاقتصادية) فإن تدمير روسيا لحلب منح نصرا آخر يروّج به بوتين لنفسه. وإذا أضفنا إلى ذلك النفوذ المتزايد للشعبويين اليمينيين في الغرب -وهو أحد أعراض أزمة كبرى تعيشها الليبرالية– فسيُصبِح من السهل تصوير بوتين باعتباره الزعيم الذي تحتاجه البلاد.
في منتدى غيدار هذا العام، لم يتوقع أي من أعضاء لجنة النقاش شيئا سوى الجمود في مجال السياسة ومزيد من القمع والانصياع التام. فقد وَحَّدَ نظام بوتين صفوفه حول العَلَم، واقتصرت الرغبة في تحدي الوضع القائم على حفنة صغيرة من الروس. وبالتالي تعد الأحداث والعلاقات الخارجية -أي تلك المساحات التي لا يملك بوتين سيطرة كاملة عليها- المصادر الوحيدة المحتملة للتغيير.
وتبدو روسيا -وهذه حالها- قوة تتمتع بمكانة جيوسياسية راسخة، بيد أن الأمور ليست دائما كما تبدو عليه. فعلى سبيل المثال -ورغم أن دعم ترمب لعلاقات أوثق يبدو أمرا يصب في صالح روسيا- فإن أحد المقومات الرئيسية للنهج القومي الذي يتبناه بوتين هو قدرته على ترسيخ دراما الحرب الباردة. وهو لهذا السبب في احتياج إلى أن تكون الولايات المتحدة -والغرب بشكل عام- عدوا له، أما الوئام فقد يفضي إلى مشاكل بعيدة المدى بالنسبة لبوتين.
أما على المدى القصير -وكما صاغ المحلل السياسي الروسي المستقل ديمتري أوريشكين الأمر في منتدى غيدار- فعلى الأرجح أن حدثا مدويا فارقا آتياً من الخارج هو فقط ما من شأنه إحداث تغيير في روسيا. أما التوازن الجديد للبلاد فقد لا يكون جيدا، ولكنه يبدو في الوقت الراهن مستقرا.
أندريس آسلوند
الجزيرة