ملخص
ظهر مقترح تشكيل وحدات الحرس الوطني كنتيجة للصدمة التي خلَّفتها سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على ثاني كبرى المدن العراقية، وما عبَّر عنه هذا الحدث من أزمة عميقة في العلاقة بين الدولة والمجتمعات السنية، وفي طريقة إدارة الشؤون العسكرية والأمنية. بدت الفكرة كجزء من استراتيجية أمنية لمواجهة تنظيم الدولة، إلا أنها تنطوي على أبعاد سياسية تتعلق بإعادة توزيع السلطة في البلد؛ مما يجعلها فكرة إشكالية في نظر البعض.
مقدمة
أدَّت سيطرة ما يُعرف بتنظيم الدولة الإسلامية (سأطلق عليه اختصارًا تسمية تنظيم الدولة) على الموصل ومدن رئيسية أخرى في العراق، إلى إحداث هزة عنيفة في البلاد، ما زالت نتائجها السياسية والأمنية تتفاعل. أثبت هذا الحدث إخفاق النهج السياسي لرئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، مؤدِّيًا إلى إجماع داخلي غير مسبوق، مدعومًا بإرادة دولية، على ضرورة عدم التجديد له في دورة ثالثة. لكن هذا الحدث كشف أيضًا عن هشاشة المنظومة العسكرية والأمنية العراقية، كما عن مكامن خلل رئيسية في الطريقة التي تدار بها البلاد. فرض ذلك حاجة إلى المراجعة التي كانت تجري في إطار استمرار الصراع العسكري العنيف مع تنظيم الدولة، وفي إطار تنامي الأدوار الإقليمية والدولية الراغبة بإعادة صياغة الوضع العراقي وفق مصالحها.
في ظلِّ هذا المناخ، طفت إلى السطح فكرة تشكيل قوات “الحرس الوطني”، وقد جاءت تحديدًا من الولايات المتحدة وعلى لسان الرئيس باراك أوباما وكبار مسؤولي إدارته؛ ففي بيان صحفي أصدره الرئيس الأميركي في 10 سبتمبر/أيلول 2014، ذكر أن الولايات المتحدة وإلى جانب دعمها القوات العراقية والكردية “سوف تدعم أيضًا جهود العراق لبناء قوات للحرس الوطني من أجل مساعدة المجتمعات السُّنِّية على تأمين حريتها من سيطرة (تنظيم الدولة)” (1). وفي نفس اليوم، صرَّح وزير الخارجية الأميركي خلال زيارته بغداد بأن الخطة التي يحتاجها العراق لمواجهة تنظيم الدولة “تتضمن إنشاء هياكل أمنية محليَّة مندمجة بشكل مباشر بالقوات الأمنية العراقية” (2). كما صرَّح رئيس أركان القوات الأميركية، الجنرال مارتين ديمبسي، بأن إنشاء وحدات الحرس الوطني هو واحد من ثلاثة عناصر رئيسية في الاستراتيجية الأميركية لمواجهة تنظيم الدولة، بالإضافة إلى عنصري التعاون مع العشائر ومساعدة القوات الكردية (3).
خلفيات الفكرة
من أجل فهم وتحليل هذه الفكرة، لابد من الرجوع للأسابيع والأشهر الأولى التي تلت استيلاء تنظيم الدولة على الموصل وزحفه نحو تكريت وتهديده باحتلال بغداد، بل وبتدمير المراقد الشيعية المقدسة. بدا أن المالكي وحلفاءه عاجزون عن التصرف أمام الانهيار التدريجي للعديد من الوحدات العسكرية؛ فبعض التقديرات يشير إلى أن القوات العراقية الجاهزة فعليًّا للقتال قد انكمشت بسبب حرب الاستنزاف مع تنظيم الدولة والفساد المستشري من 400.000 إلى 85000 مقاتل (4). ولم يُظهر المالكي أي مؤشر على مراجعة سياساته أو الإقرار بجزء من المسؤولية عمَّا حدث. في المقابل، وأمام العجز الحكومي وفقدان الثقة بقدرة حكومة المالكي على التعامل مع الوضع، أصدرت المرجعية الشيعية في النجف ما عُرف بفتوى “الجهاد الكفائي” (5)، دعت فيها كل القادرين على القتال إلى الالتحاق بصفوف القوات الأمنية. أثمرت تلك الفتوى عن حالة تعبئة كبيرة بين الشيعة وسمحت بترميم المعنويات واستعادة زمام السيطرة، فعشرات الآلاف من المواطنين دخلوا في صفوف ما صار يُعرف بقوات “الحشد الشعبي”، لكن الجهد القتالي والعملياتي المهم جاء من قبل الميليشيات الإسلامية الشيعية مثل قوات بدر، بقيادة وزير النقل السابق هادي العامري، وسرايا السلام التابعة للتيار الصدري، وعصائب أهل الحق بقيادة قيس الخزعلي، وكتائب حزب الله، وكتائب النجباء، وغيرها من الفصائل الصغيرة. وبينما يُقدَّر عدد قوات الحشد الشعبي بـ 80.000، فإن عدد أعضاء الميليشيات الشيعية الناشطة يُقدَّر بـ 20000، بعضها مقرَّب جدًّا من إيران ويمارس نشاطه العسكري بإشراف من الجنرال قاسم سليماني، رئيس فيلق القدس (6).
نجحت القوة الشيعية المسلَّحة بوقف تمدد التنظيم نحو المناطق ذات الغالبية الشيعية، وقامت أيضًا بعمليات قتالية في مناطق حسَّاسة مثل جرف الصخر وحزام بغداد وديالى. بينما أسهمت بعض القبائل السنية وما تبقى من قوات الصحوة في الدفاع عن الرمادي ومناطق أخرى في مدينة الأنبار، وسط شكاوى بعدم توافر الأسلحة والدعم الكافي من الحكومة العراقية، وبغياب الضمانات الكافية لها.
ورغم أن الإدارة الأميركية انخرطت بالجهد العسكري من خلال العمليات الجوية التي نفذتها ضد تنظيم الدولة، ومن خلال نشر مستشارين ومدربين لمساعدة القوات العراقية الحكومية وقوات البيشمركة، بلغ عددهم 2200 بنهاية العام الماضي (7)، إلا أن الأميركيين حاولوا صياغة سياستهم وفق منهج أكثر شمولية، هدفه الأساسي منع تنظيم الدولة من التمدد إلى مناطق جديدة، وبنفس الوقت عدم تحويل الصراع الراهن إلى فرصة لإيران كي تكرِّس نفوذها في العراق.
يضع مايكل نايتس، محلِّل الشؤون الأمنية، الاستراتيجية الأميركية لمواجهة تنظيم الدولة في ثلاث مراحل (8):
الأولى: إضعاف التنظيم وتحويله إلى جماعة متمردة، قد تكون كبيرة، لكنها تفتقد لصفة “الدولة” التي تحاول أن تضفيها على نفسها، ويتم ذلك باستعادة السيطرة على المدن الرئيسية التي غنمتها مثل الموصل وتكريت والفلوجة وتلعفر، وفي هذه المرحلة سيظل التنظيم ينشط كجيش متمرِّد فعَّال في الأراضي الصحراوية أو صعبة التضاريس، خصوصًا تلك القريبة من الحدود السورية.
الثانية: في هذه المرحلة، يتركز الجهد العسكري على طرد أو تشتيت مقاتلي التنظيم في مناطق تواجدهم خارج المدن وتقييد قدرتهم على الحركة عبر الحدود العراقية-السورية.
الثالثة: في هذه المرحلة يتركز الجهد على اصطياد من يتبقى من مقاتلي التنظيم من خلال حملة لمكافحة الإرهاب تعتمد العامل الاستخباراتي وتستهدف الخلايا النائمة للتنظيم.
تزامنًا مع هذه المراحل الثلاث، تقوم الحكومة العراقية بفتح قنوات التواصل مع المجتمعات السنية وتشرع بحوار جدِّي للمصالحة معها.
بهذا المعنى، فإن السياسة الأميركية ما زالت في المرحلة الأولى تحاول احتواء تنظيم الدولة ومحاصرته، وفرض حدود لتمدد النفوذ الإيراني؛ ولذلك فإن هاجس إدارة الفراغ الذي قد ينشأ عن دحر التنظيم والانتقال إلى المرحلة الثانية، هو الذي يدفع الأميركيين إلى محاولة الترويج لمسار سياسي يتزامن مع العمليات العسكرية، وإلى التريث والتباطؤ في الجهد العسكري. وبالتالي، فإن إدارة مرحلة ما بعد إنهاء سيطرة تنظيم الدولة لا تقل أهمية عن المرحلة الراهنة في المنظور الاستراتيجي الأميركي، بل إن بعض المراقبين الأميركيين لم يخفوا اعتقادهم بأن ما يحصل رغم خطورته وجسامته قد يمثِّل فرصة لاستعادة النفوذ في العراق. إننا في الحقيقة أمام ما هو أكثر من صراع عسكري، إنها عملية ذات بُعد جيوسياسي يتعلق بمستقبل الدولة في العراق، والذي يؤثِّر قطعًا على جواره، خصوصًا سوريا والأردن.
الصياغة السياسية
لا يقصد المقترَح توفير قوات لهزيمة تنظيم الدولة ومسك الأرض، وحسب، بل وأيضًا إعادة توزيع السلطة على المدى البعيد، ومن هنا تأتي حساسيته. يعتقد الأميركيون بأن المشكلة في العراق تكمن في غياب الثقة بين الشيعة والسُّنَّة والكرد، وأن سياسة رئيس الوزراء المالكي كانت تحركها دوافع طائفية وأدَّت إلى تهميش السنة وتعزيز حالة الاغتراب التي يعانون منها في ظل الوضع السياسي القائم، وأن تلك الحالة هي التي أدت إلى تنامي التذمر من الحكومة بل استعداد بعض المجتمعات السنية إلى القبول بسيطرة تنظيم الدولة كبديل عن القوات الحكومية العراقية.
ومن هنا، فإن الحل وفق هذا المنظور يقوم على تشكيل قوة سنية مستقلة إلى حدٍّ كبير، وتكون علاقتها جيدة بمجتمعاتها وسكان مناطقها بما يمنحها قدرًا من الشرعية اللازمة للحصول على الدعم المحلي في مواجهة تنظيم الدولة.
وقد ربط بريت مكغورك، مساعد نائب وزير الخارجية الأميركي والدبلوماسي المعني مباشرة بالشأن العراقي، فكرة الحرس الوطني بما أسماه بـ”الفيدرالية القابلة للعمل functioning federalism”، بوصفها نموذجًا للمصالحة والحوكمة وفرض الاستقرار، وحدَّد في جلسة استماع أمام الكونغرس خمسة مبادئ أساسية تنظمها (9):
يجب أن يتولى المواطنون المحليون القيادة في عملية تأمين مناطقهم.
يجب أن يُعطى المواطنون المحليون والجماعات المحلية ما يكفيهم من موارد الدولة من الرواتب والخدمات والمنافع، عبر البنية المقترحة للحرس الوطني.
لن يُسمح للجيش العراقي بدخول المدن إلا في حالات نادرة جدًّا، بل سينصرف تركيزه على أداء مهمات فيدرالية كحماية الحدود.
يجب أن يكون هناك تعاون وثيق بين سلطات الأمن المحلية والإقليمية والوطنية من أجل انتزاع المناطق التي يسيطر عليها تنظيم الدولة تدريجيًّا.
يجب أن تعمل الحكومة الفيدرالية بشكل حذر على تنفيذ مجموعة من الإصلاحات والاستجابة للشكاوى المشروعة من أجل نزع الذرائع التي يستغلها تنظيم الدولة.
لن تكون هذه هي المرة الأولى التي يشهد العراق فيها تشكيل قوات ميليشيا “رسمية”، بل إن رصدًا لمسار الدولة العراقية الحديثة يشير إلى أن مثل هذا التشكيل كان موجودًا بصورة أو أخرى، في الغالب لخدمة أغراض السلطة، إمَّا بسبب غياب الثقة التامة بالمؤسسة العسكرية أو لأن تلك التشكيلات مثَّلت كيانات عسكرية “عقائدية”؛ فمثلًا كانت قوات الليفي الآشورية التي شكَّلها الاحتلال البريطاني وصارت بمثابة قوات خاصة عراقية نموذجًا مبكرًا لهذا النوع من التشكيلات، كذلك كان “الحرس القومي” التابع لحزب البعث، ومن بعده تشكيلات مثل “الجيش الشعبي” و”فدائيو صدام”. الحاجة لمثل هذه التشكيلات تعبِّر إلى حدٍّ ما عن معضلة بنيوية في علاقة السلطة بالمجتمع في العراق؛ فالكيانات المؤسساتية القانونية غالبًا ما كانت هشَّة، ولا تحظى بما يكفي من الولاء والاحترام، بينما كانت الكيانات التي تتحكم بعلاقاتها الداخلية العصبيات المحلية أو الأيديولوجيا أكثر كفاءة. وقد كان انهيار وحدات كبيرة من الجيش العراقي الذي أنفق الأميركيون على تسليحه وتدريبه حوالي 25 بليون دولار (10)، تعبيرًا عن هذه المشكلة، خصوصًا عند مقارنته بالحشد الشعبي والميليشيات الشيعية العقائدية، بل بتنظيم الدولة نفسه.
لكن المهم في فكرة الحرس الوطني هو أنها تستهدف “مأسسة” الميليشيات، بطريقة تثير تناقضًا بين أهداف القوى الشيعية وأهداف القوى السنية، وبين الإيرانيين والأميركيين، وهما الطرفان الخارجيان الأكثر فاعلية في العراق اليوم، وهذه التناقضات تكمن في حقيقة أن هذه الأطراف تدرك جميعًا أن الأمر يتعلق بتوزيع السلطة والنفوذ، وربما تحديد شكل العراق المستقبلي.
مواضع الاختلاف
ظهر أول مؤشرات الاختلاف القادم بعد أيام قليلة من تولي حيدر العبادي رئاسة الوزراء، حينما نشر بعض وسائل الإعلام العراقية مسوَّدة للقانون بدا وأنها تمثِّل الفكرة الأميركية وتعكس أيضًا وجهة النظر السنِّية؛ حيث تضمنت المسودة مادةً تؤكد إعطاء الأولوية لضباط ومنتسبي الجيش العراقي السابق في التعيين في قوات الحرس الوطني استثناء من قانون المساءلة والعدالة وإجراءات اجتثاث البعث. كما تضمنت مادة أخرى تستثني الميليشيات والتشكيلات العسكرية غير الرسمية (في إشارة إلى الميليشيات الشيعية) من دخول تلك القوات، وأن ترتبط تلك القوات بالمحافظ في كل محافظة (11).
تدريجيًّا، اتضح أن هذه التصورات بعيدة عن تلك التي تتبناها القوى الشيعية التي تعتقد أن قوات عسكرية بهذه المواصفات تعني عمليًّا تشكيل “بيشمركة سُنِّية” لا تخضع لسلطة بغداد لكنها تأخذ تمويلها منها. بدأت تلك القوى في تقديم تصورات مغايرة من بينها التأكيد على أن قوات “الحشد الشعبي” ستكون نواة الحرس الوطني وستُشكَّل في جميع المحافظات وليس السنية فقط، وعلى ضرورة أن ترتبط تلك القوات برئيس الحكومة، وعلى أن تشمل إجراءات اجتثاث البعث منتسبيها. الكرد من جانبهم أبدوا بعض الشكوك، خصوصًا بشأن تأسيس مثل هذه القوات في كركوك والمناطق المتنازَع عليها التي تسيطر عليها البيشمركة الكردية حاليًا (12). أمَّا الموقف السني فخلاصته أنه إذا كان لدى الكرد قوات البيشمركة، ولدى الشيعة قوات الحشد الشعبي والسيطرة على معظم التشكيلات المسلحة الرسمية، فلابد أن يكون للسنة قوات دفاع ذاتي خاصة بهم.
ووسط هذه الشكوك والتصريحات المتباينة، ومع تواصل الضغوط الأميركية، أقرَّت الحكومة العراقية مسودةً للقانون وأحالتها للبرلمان (13)، إلا أنه سرعان ما ظهر لغط شديد حولها؛ فاتحاد القوى الوطنية “السُّنِّي” ذكر أن المسوَّدة التي أُرسلت للبرلمان هي غير التي جرى التصويت عليها، بينما أعلن بهاء الأعرجي، نائب رئيس الوزراء عن التيار الصدري، الذي ترأَّس لجنة لصياغة مسودة القانون أنها حصلت على موافقة مجلس الوزراء وبموجبها سيكون الحشد الشعبي هو نواة الحرس الوطني، وسترتبط هذه القوات برئيس الوزراء وليس المحافظ، وتكون تشكيلًا عسكريًّا أعلى من الشرطة وأقل من الجيش في تسليحه ونوعية نشاطاته. وقرنت قوى شيعية أخرى التصويت على القانون بضرورة إصدار قانون آخر يعلن تجريم حزب البعث والتأكد من أن التشكيل الجديد لن يكون غطاءً لعودة البعثيين.
يبدو من الواضح أنه ليس هنالك توافق بين القوى الرئيسية حول القانون، وأن عملية الشدِّ والجذب بين الأطراف المختلفة ستتصاعد بسبب الاختلاف في منظور هذه القوى للقانون وأهدافه وطبيعته. ويمكن تلخيص أهم مواضع الاختلاف في الآتي:
القوى السنية ترى أن وجود هذه القوات سيسمح بالتخلص مما تعتبره تعسفًا من القوات الحكومية تجاه السكان السُّنة، وسيمنحها استقلالية أكبر في إدارة شؤونها بما قد يصل بها إلى شكل من أشكال الفيدرالية على غرار كردستان. وهي تعتقد أن هذا النوع من الاستقلال العسكري، بالإضافة إلى أنه سيوفر لتلك القوى منافذ لكسب الأتباع في المجتمع السني عن طريق التعيينات، فإنه سيمنح الطرف السني قوة تفاوضية افتقر إليها طوال السنوات الماضية، بينما تخشى القوى الشيعية من أن يؤدي القانون إلى ظهور قوة سنية غير صديقة، وإلى اختراق قوى معادية للحكومة العراقية صفوفها، وبالتالي تصبح خطرًا سياسيًّا وعسكريًّا لا يختلف كثيرًا عن خطر تنظيم الدولة، مع فارق أن الحكومة العراقية هي التي تقوم بتمويله مباشرة.
تريد الأطراف السنية، ولضمان انسجام المشروع مع تطلعاتها، أن تكون قيادته محلية وترتبط بالمحافظ، من أجل منع رئيس الوزراء الشيعي من استخدام هذه القوات لملاحقة خصومه السنة -كما حصل في حالة المالكي-، لكن القوى الشيعية ترى أن ذلك وصفة باتجاه التقسيم وإخراج المناطق السنية من سيطرة الحكومة المركزية، ولذلك تفضِّل ربط تلك القوات برئيس الوزراء (14).
تريد الأطراف الشيعية توظيف القانون كغطاء للميليشيات الشيعية وقوات الحشد الشعبي من أجل ضمان أغلبية عددية في التشكيل الجديد وكذلك توفير فرص لتلك الأطراف لكسب الأتباع عن طريق التوظيف، وقد ذهبت بعض تصريحاتهم إلى تحديد عدد أعضاء التشكيل بـ 70.000 من الشيعة و50.000 من السنة (15)، بينما تخشى القوى السنية من أن يصبح هذا التشكيل في النهاية مؤسسة شبيهة بالجيش وقوات وزارة الداخلية وتخضع لسيطرة الأطراف الشيعية وبالتالي تُفرَّغ من محتواها، خصوصًا أن تلك القوى اشتكت أصلًا من تجاوزات قامت بها القوات المرتبطة بالحشد الشعبي ضد المدنيين السُّنة.
الميزات والإشكاليات
من الواضح، وكما سبق القول، أن فكرة الحرس الوطني تقوم على مبررات جيدة؛ فهناك اتفاق واسع النطاق على أن هزيمة تنظيم الدولة لن تكتمل بدون انخراط القوى المحلية السنية التي تتردد في مواجهته بسبب غياب البديل. فالتنظيم استثمر كثيرًا في الشرخ الطائفي وغياب الثقة بين القوى السنية والشيعية، وفي الشكاوى السنية ومشاعر الحيف بين السكان السُّنة التي تفاقمت في ظل حكم رئيس الوزراء السابق، وبالتالي فإن إطارًا جديدًا لإعادة ثقة المجتمعات السنية بالعملية السياسية والحكومة العراقية يبدو ضروريًّا لقلب البيئة المحلية تمامًا ضد تنظيم الدولة، على الأقل هذا ما يعتقده الطرف الأميركي. وبالتالي، فإن قوات الحرس الوطني ستعمل كضدٍّ نوعيٍّ سُنِّي لتنظيم الدولة في المناطق السنية، وستكون قادرة على كسب الكثير من المترددين بسبب الفرص التي توفرها، ومسك الأرض من المناطق التي يخرج منها التنظيم بدون أن تكون لديها مشكلة ثقة مع السكان المحليين.
وبموجب هذه الفرضية فإن الاستقلالية الأمنية للمدن السنية ستمثل حجر الأساس لما أسماه مكغورك بالفيدرالية القابلة للعمل، وسيُنهي التوتر الذي أدَّت إليه السياسات المركزية التي اتبعها المالكي، ويسمح بتوزيع السلطة بشكل يمنع أي طرف من احتكارها. وسيخلق هذا المنهج فرصًا أفضل للمصالحة، خصوصًا إنْ رَفَدَته قوانين أخرى تتعلَّق بإدارة الموارد النفطية والغازية وتوزيع الثروة. وكما سبق الذكر، يعتقد الأميركيون أنه سيكون وسيلة لتحجيم النفوذ الإيراني في العراق لأن المناطق السنية ستكون بطبيعتها خارج دائرة هذا النفوذ، دون أن تكون خاضعة لتنظيم جهادي، وستكون السلطة أكثر انتشارًا بحيث تقل حوافز الإيرانيين لفرض هيمنتهم على الحكومة المركزية.
في المقابل، هنالك فرضية ترى أن هذا المشروع سيقود لا محالة لتفتيت العراق، ولصراعات مستقبلية، فعندما يكون لكل طائفة جيشها وقواتها، يعني هذا خلق احتمالات لصدامات عسكرية بين تلك الجيوش، وكذلك فقدان الدولة أهم عنصر في تعريفها، وهو “احتكار العنف الشرعي داخل حدودها”. كما شكَّك كلٌّ من فريدريك ويهري وأرييل إهرام في مقالة نشرها مركز كارنيغي، بجدوى مثل هذه القوات وبالفرضية الأساسية التي يستند عليها المشروع، فليس هناك ضمان لأن تلك القوات قادرة فعلًا على دحر تنظيم الدولة ومسك الأرض، أو أن الجماعات الجهادية لن تتمكن من اختراقها. كما أنه وعلى المدى البعيد، كما حصل مثلًا مع القوات القبلية التي دعمتها الحكومة اليمنية لمواجهة تنظيم القاعدة، فإن تلك “الميليشيا” ستصطدم لا محالة بالسكان المحليين وستخلق توترات حتى لو كان أعضاؤها من نفس طائفة السكان (16). علينا أن نتذكر هنا، أن البُعد الطائفي ليس هو المُعرِّف الوحيد لهويَّات وولاءات السكان المحليين، فمناطق غرب العراق ذات الطابع القبلي مثلًا تعطي الانتماء العشائري أحيانًا دورًا أكبر. وقد أدَّت تجربة الصحوات إلى ظهور أحقاد عشائرية متبادلة، عبَّر عنها انقسام عشائر الأنبار بين مؤيد للعمل المسلح ضد الحكومة ومن يتعامل مع الحكومة.
إذا أضفنا لذلك حقيقة أن العراق يواجه أزمة مالية حاليًا مع انخفاض أسعار النفط، ستصبح قضية تمويل هذه التشكيلات العسكرية الجديدة وكيفية إدارة هذا التمويل مشكلة أخرى؛ فتضخم الميزانية العسكرية الذي كان سمة من سمات تاريخ الدولة الحديثة في العراق، سيكرِّس عسكرة المجتمع وسيستمر باستنزاف الموارد على حساب التنمية واستيعاب البطالة في مجالات إنتاجية، كما أن هذا المزج بين التشكيلات غير الرسمية والتشكيلات الرسمية قد يخلق مستقبلًا أمراءَ حربٍ يتصارعون مع الدولة أو فيما بينهم. وبالحكم على طبيعة الطبقة العراقية وسلوكياتها، ففي الغالب سيتم استخدام التعيينات في هذه القوات كوسيلة لبناء شبكات زبائنية جديدة وكسب الأتباع؛ مما يخلق تنافسات وتوترات بين الطوائف وداخل الطائفة الواحدة حول الحصص والنفوذ داخل تلك التشكيلات.
السيناريوهات المستقبلية
بأخذ كل المعطيات السابقة بالاعتبار، يمكن القول: إن هناك احتمالين للكيفية التي ستنتهي إليها النقاشات الراهنة بخصوص قضية الحرس الوطني:
الأول: أن تفشل الأطراف العراقية في التوصل إلى صيغة وسطية مقبولة للقانون مما سيعقِّد الصراع الجاري ضد تنظيم الدولة، وربما يعمِّق التوتر الطائفي في البلد، ويقود إلى صدام أكثر وضوحًا بين الأجندتين الإيرانية والأميركية في العراق.
الثاني: أن يتم التوصل إلى حل وسط، ربما عبر التوفيق بين تبعية تلك القوات لرئاسة الوزراء وإدارة المحافظين لها، عبر تشكيل مجلس للتنسيق أو مكتب ارتباط مع قوات الجيش العراقي القريبة، أو عبر ثنائية اتخاذ القرار بين الحكومة الاتحادية والحكومة المحلية.
وبأية حال، أيًّا كانت ميزات هذه الفكرة، لابد من إدراك حدودها والإشكاليات التي تنطوي عليها، وهي لابد أن تقترن برؤى بعيدة المدى للمصالحة الداخلية، وتجنيب العراق التحول إلى منطقة لصراع النفوذ بين القوى الإقليمية والدولية، وتوجيه قدر أكبر من الموارد نحو التنمية. إن هذا المشروع يعكس بالدرجة الأولى قلَّة الخيارات الجيدة بخصوص مستقبل العراق؛ فالبلد ما زال يعيش عملية صراعية لإعادة تعريف كيانه السياسي وهويته وعلاقة الدولة بمجتمعه، والعلاقة بين أطيافه ومكوناته، وكلها مسائل كبرى تتطلب تحولًا مؤلمًا في المفاهيم والطرق، دون ضمانات للنجاح.
_________________________________
حارث حسن – باحث في الشؤون السياسية العراقية
المصادر والمراجع
1- The White House: Office of the Press Secretary, Statement by the President on ISIL, 10 September 2014: http://www.whitehouse.gov/the-press-office/2014/09/10/statement-president-isil-1
2- US Department of State, 10 September 2014: http://www.state.gov/secretary/remarks/2014/09/231438.htm
3- Global Security.org, New Iraqi National Guard (ING) 2014: http://www.globalsecurity.org/military/world/iraq/ing.htm
4- Michael Knights, “The Long Haul: Rebooting US Strategy in Iraq”, The Washington Institute for Near East Policy, 2015.
5- مكتب المرجع الديني الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني: http://www.sistani.org/arabic/archive/24918/
6- Knights, The Long Haul; see also: Philip Smith, All the Ayatollah’s Men, Foreign Policy, 18 September 2014:
7- Knights, The Long Haul.
8- Knights, The Long Haul
9- Brett McGurk, “Statement for the Record: Deputy Assistant Secretary Brett McGurk,” Senate Foreign Relations Committee Hearing: Iraq at a Crossroads: Options for U.S. Policy, July 24, 2014, pp. 10–11, http://www.foreign.senate.gov/imo/media/doc/McGurk%20Testimony%20 072414-Final%20Version%20REVISED.pdf.
10- Loveday Morris, The U.S. military is back training troops in Iraq, but it’s a little different this time, Washington Post, 8 January 2015.
11- صوت كردستان، نص قانون الحرس الوطني العراقي، 14 أكتوبر/تشرين الأول 2014: http://www.sotkurdistan.net/index.php?option=com_k2&view=item&id=43679:%D9%86%D8%B5-%D9%82%D8%A7%D9%86%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B7%D9%86%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A&Itemid=211
12- Sudad al-Salhy, Fighting for Iraq’s National Guard, Aljazeera, 2 February 2014: http://foreignpolicy.com/2014/09/18/all-the-ayatollahs-men/ http://www.aljazeera.com/news/2015/02/fighting-iraq-national-guard-150202064153032.html
13- الجزيرة، مجلس الوزراء العراقي يقرُّ قانون الحرس الوطني، 3 فبراير/شباط 2015: http://www.aljazeera.net/programs/newsreports/2015/2/3/%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B2%D8%B1%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A-%D9%8A%D9%82%D8%B1-%D9%82%D8%A7%D9%86%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B7%D9%86%D9%8A
14- علي السهيل، اتحاد القوى يرفض قيادة العبادي للحرس الوطني، الصباح الجديد: http://www.newsabah.com/wp/newspaper/37260
15- نجلاء صلاح الدين، مجلس الوزراء يقرُّ اليوم قانون الحرس الوطني، الصباح الجديد: http://www.newsabah.com/wp/newspaper/36219
16- Frederic Wehrey, Ariel I. Ahram, “The National Guard in Iraq: A Risky Strategy to Combat the Islamic State”, Carnegie, 23 September 2014: http://carnegieendowment.org/2014/09/23/national-guard-in-iraq-risky-strategy-to-combat-islamic-state
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات