شجعت سياسة الانكفاء التي انتهجتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في ترسيخ النظام الإيراني نفوذه في العراق، الذي يمثّل مركز ثقل كبير له. كما ساهم هذا النفوذ في تقوية أو صمود حليفه النظام السوري، ويبدو أن تلك السياسة قد طويت صفحتها مع إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، حيث لم يتردّد في التعبير عن امتعاضه من هيمنة النظام الإيراني على العراق، معتبرا أنه استفاد من جهود كبيرة بذلتها بلاده وأموال طائلة دفعتها دون طائل. وهذا ما عبر عنه بعد مجيئه للبيت الأبيض في شهر كانون الثاني/ يناير الماضي، حينما صرّح: “إن بلاده اقترفت خطأً فادحاً حينما دخلت العراق ثم سلمته إلى إيران” وعبّر عن استيائه الشديد من سياسة الإدارة السابقة لبلاده تجاه العراق، والتي قال إنها “تركت العراق وحيداً”؛ وإن ذلك “أنشأ فراغاً استغله الإيرانيون”. وتابع “كان يجب ألا نترك العراق، فقد شكّلنا هناك فراغاً كبيراً، مُلئ من قِبل إيران وداعش”.
ويبدو أن معركة الموصل هي المدخل الرئيس لإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب من أجل تطويق النفوذ الإيراني في العراق ومحاصرته في الدول العربية الأخرى، وتعبيرا عن أهمية معركة الموصل في ترتيب الأوضاع المستقبلية للعراق قال وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون، “إنّ واشنطن تسعى لإعادة العراق إلى وضعه الطبيعي”.
وبالتوازي مع انخراط إدارته بشكل أكبر في الحرب على تنظيم داعش بالعراق والتي وصلت إلى مرحلة الحسم في مدينة الموصل مركز محافظة نينوى بالشمال العراقي، بدا أن إدارة ترامب قد انخرطت في “حرب” سياسية ودبلوماسية موازية لمحاصرة النفوذ الإيراني من خلال الطلب من رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي فك ارتباط حكومة بغداد وارتهان قرارها بطهران. وتريد الولايات المتحدة من انخراطها بشكل أكبر في الحرب على تنظيم داعش في العراق انتزاع الدور الرئيسي في حسمها نظرا لأهمية ذلك في وضع ترتيبات المرحلة التي تليها، بما في ذلك إعادة توزيع خارطة النفوذ في البلد.
وتريد الولايات المتحدة من انخراطها بشكل أكبر في الحرب على تنظيم داعش في العراق انتزاع الدور الرئيسي في حسمها نظرا لأهمية ذلك في وضع ترتيبات المرحلة التي تليها، بما في ذلك إعادة توزيع خارطة النفوذ في البلد والذي يتمثل في استعادة السيطرة على مستقبل العراق.
لذا يرى المتابعون للشأن العراقي أن الإبطاء في استكمال تحرير مدينة الموصل من داعش لا صلة له بقدرات التنظيم على الصمود؛ إذ أنّ قوّته الرئيسية تم سحبها إلى الداخل السوري كما يؤكد العارفون بطبيعة الخطط التي يتبعها داعش في معاركه، وهي خطط تعتمد المناورة عن طريق الكر والفرّ ولا تكرس البقاء في المكان نفسه لأكثر من نزال واحد. ولهذا السبب يجزم هؤلاء بأن البطء في حسم المعركة مرده أن القيادة العسكرية الأميركية تسعى إلى أن تنهي المعركة في اتجاهين: أولهما الانتهاء من مسألة وجود داعش على الأراضي العراقية بشكل كلي، بحيث لا تعود له القدرة على التهديد والقيام بجولة جديدة كما حدث سابقا غرب العراق. وثانيهما ضمان ألا تستفيد فصائل الحشد الشعبي التابعة للنظام الإيراني من السيطرة على مناطق سنية في محافظة نينوى بالغة الأهمية لوقوعها على الطريق باتجاه سوريا ما يتيح له تحقيق التواصل بين مناطق نفوذها في ثلاثة بلدان عربية متجاورة هي كل من العراق وسوريا ولبنان.
وتجلّت المنافسة بين واشنطن وطهران على المشاركة في المرحلة النهائية من المعركة الحاسمة من خلال تصريحات لقائد عسكري أميركي قللّ فيها من دور إيران في حرب داعش بالموصل. حينما وصف المتحدث باسم التحالف الدولي لمحاربة داعش، العقيد الجوي جون دوريان، في موجز صحفي عقده من العراق، عبر دائرة تلفزيونية خاصة مع صحفيين في واشنطن يوم الأربعاء 22 شباط/ فبراير الحالي، الحضور الإيراني في محاربة داعش في العراق بأنه “ضعيف”، مؤكداً وجود مليشيات مدعومة إيرانياً في الجانب الغربي من مدينة الموصل تشارك في المعارك. لكن تسمية دوريان لتلك القوات بالميليشيات والقول إنّها مدعومة من إيران يعنيان عدم اعتراف الولايات المتحدة بها كقوة شرعية خاضعة للحكومة العراقية.
وأضاف قائلًا: “لم نر أعداداً كبيرة من طواقم الجيش الإيراني، بالرغم من وجود بعض المجاميع العاملة غرب مدينة الموصل ممن لديهم ارتباطات مع إيران”، في إشارة إلى قوات الحشد الشعبي. ولفت إلى أن “موقف بلاده من هذه المسألة يتمثل في أن كل كيان يقاتل داعش في العراق، عليه أن يفعل ذلك بالتعاون مع وبموافقة حكومة العراق”. ولم يستثن دوريان إمكانية إرسال المزيد من القوات الأميركية إلى العراق قائلا “قائد قوات التحالف الدولي الجنرال جوزيف فوتيل يتوقع دعم الإدارة الحالية له في حال احتاج إلى المزيد من التعزيزات من المقاتلين والمعدات”.
ولم يكن انخراط الولايات المتحدة المتزايد في معركة الموصل، من دون نتائج حيث أعاد تحريكها بعد جمود تواصل لأسابيع واستمر بعد استكمال استعادة الجزء الأيسر من المدينة والواقع إلى الشرق من نهر دجلة. حيث أعلنت القوات العراقية 23 شباط/ فبراير الحالي، سيطرتها على مطار الموصل الذي يعدّ محطّة هامة في عملية استعادة الجزء الغربي من المدينة.
مع هذه التصعيد الأمريكي ضد النظام الإيراني النظام الإيراني الذي استغل انهيار العراق وتخلي إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عن واجباتها، والتسليم بمقايضة النووي الإيراني وترحيله إلى سنوات مقبلة، في نشر الوباء الطائفي كارثياً في ثلاث دول هي العراق وسوريا واليمن ودول أخرى أيضا لكن في حدود إصابات متفاوتة، وصنعت إرهاباً خاصاً بها، وإرهاباً مضاداً يؤديان الغاية في تدمير الشعوب وإضعافها في محيط يعتقد النظام الإيراني أنه امتلك زمام السيطرة عليه لتحقيق أمنه وأهدافه، ولإيصال صادراته بالمساومة مع العالم، مرة بالتهديدات ومرة بالالتفاف عليه، أو برفع الشعارات وآخرها وأولها قضية فلسطين.
يكون قد اكتشف لتوّه نتائج خسارته الغطاء الذي وفّرته له إدارة أوباما ومكّنته من تمرير تدخّلاته الخارجية واستغلاله الجماعات الإرهابية، كما استشعر أن تجديد العقوبات عليه يجعل رفعها هدفاً بعيد المنال من دون تنازلات طالما رفضها. وبين التصعيد على وقع مناورات «الحرس الثوري» وخروج الرئيس حسن روحاني في أول زيارة خليجية كان وعد بها خلال حملته الانتخابية، يبدو النظام الإيراني مربك وحائر أكثر منه متحدّي، فوضعه السوري متأرجح الى حد طلب ضمانات روسية لما يعتبره مصالح له ولميليشياته، ووضعه العراقي حذر على رغم القوة التي يتمتع بها «حشده» يبقى الغليان الشعبي مقلقاً، أما وضع «حوثييها» في اليمن فمن سيئ الى أسوأ.
المؤشر الواضح في تعيين هربرت ماكماستر مستشاراً للأمن القومي الأميركي وهو أحد القادة الذين جربوا الأخطاء الأميركية في العراق وبالذات ما يتعلق منها بالتدخل الإيراني، وله علاقة وثيقة بمدينة تلعفر بحكم واجباته العسكرية حينها. وزير الدفاع جيمس ماتيس كان في تجربة في العراق أيضاً وأثناء زيارته لبغداد قال عدت إليكم لكن بوظيفة جديدة. الآخر هو جون كيلي وزير الأمن الداخلي؛ أي أن ترمب أحاط نفسه بمحاربين قدامى خدموا في العراق، بمعنى أنهم جنرالات وسياساتهم تتسم بالخيارات العسكرية والصرامة؛ يؤكد حرص الرئيس الـ 45 للولايات المتحدة، على تنفيذ وعوده الانتخابية وخاصة بالعراق وإيران بطريقة سريعة تشدّ مؤازريه من حوله، وتربك خطط أعدائه ومشاريعهم، وتعيد (حسب قناعاته) الهيبة الدولية لبلاده التي فقدت كثيراً من مكانتها الدولية خلال أكثر من عقدين؛ بسبب سياسات الرؤساء السابقين.
خلاصة القول، مُحِقّةٌ بالتأكيد الدعوة إلى مناهضة دور الإيراني مزعزع الاستقرار في المنطقة والداعم الإرهاب المليشيوي الطائفي، لكنّ الأجدر والأجدى ألا تكون على طريقة مناهضة روسيا للولايات المتحدة الأمريكية ودعوتها إلى «عالم ما بعد الغرب»؛ إذ مثلما أن روسيا غير مؤهلة للحديث عن نموذج عالمي في حوزتها جاذب الآخرين، وكذلك الصين، فإنه لا ينبغي الوقوع في فخّ اكتفائنا بتشدد ترمب حيال النظام الإيراني طريقاً لحبّه وغض الطرف عما قد يحمله من كارثية على مستقبل العالم… إن لم يتغير.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية