الاستقطاب السياسي في السودان

الاستقطاب السياسي في السودان

580

يمر السودان بحالة استقطاب سياسي متعدد الاتجاهات، نشطته أحداث داخلية ومؤثرات إقليمية محيطة. أما فاعلية هذه الحالة فقد جاءت تهيئة للانتخابات السودانية، التي تقف منها المعارضة موقف الحذر.

هذا الاستقطاب المدمر الذي انتهجته حكومة الإنقاذ منذ 1998 وإن أدى في السابق إلى انفصال الجنوب وإشعال الحروب في دارفور وولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، فإنه كذلك يهيئ الساحة لأزمات عديدة قادمة.

الاستقطاب الأيديولوجي
بدأ الاستقطاب الأيديولوجي والاعتقادي في السودان مع تاريخه الحديث متمثلا في نهج الإمام محمد أحمد المهدي قائد الثورة المهدية كفتح داخلي للسودان بعد فتوحات محمد علي باشا إبان الغزو التركي المصري. كان الدين الرسمي هو الدين الإسلامي الذي تسامح مع وجود أديان أخرى، بالرغم من أنه دخل في ذلك التاريخ كأداة لمقاومة الاستعمار تمثل في جهاد الإمام محمد أحمد المهدي 1843-1885.

وقد استفاد المهدي من أن السودانيين في ذلك الزمان كان سلوكهم هو إقحام الوسطاء الروحيين في علاقة الفرد بربه. وطوال الفترة وبعد ترسيخ قوائم الدولة المهدية بدأت دورة اجتماعية جديدة تتأطر صراعاتها ضمن أيديولوجيا عدها السودانيون غريبة على دينهم، فأخذ يعمل على الاستقطاب بالسلاح والمال ويجند من حوله أنصاره ومواليه، وتجاوز الأمر تلك الحدود إلى تكوين جسد حاكم قوامه أنصار المهدي من الرجال الجنود والسبايا من النساء.

وبذا فقد حكم السودان في ذلك العهد القبلي القديم من خلال هيمنته الفردية فكان الناس يدورون في فلكه كقائد ملهم، ولم ينجح في جعل “المهدية” مؤسسة حكم.

كانت هناك مرحلة أخرى من مراحل الاستقطاب الأيديولوجي في ستينيات القرن الماضي وهي الفترة التي شكلت الصراع بين الأيديولوجيتين الإسلامية والشيوعية.

فقد أخذ الحزب الشيوعي يستمد عناصر الحياة من بعض الخصوصيات والمرجعيات السودانية الخالصة. فالشيوعيون السودانيون مثلهم مثل وسطيي إسلام أهل السودان لا يتوانون عن أداء كافة العبادات الإسلامية، وبذا فقد اكتسب الحزب أحد مصادر حياته من خصوصيته السودانية. فلا أحد يرجع الحزب إلى أفكاره الأيديولوجية الأصلية ولا إلى منبعه الأصلي، لذا حينما قُبرت الشيوعية بانهيار المعسكر الشرقي بقي الحزب الشيوعي جناح السودان يصارع الموت وينجو كل حين.

وقد حاولت حكومة الإنقاذ التي جاءت بانقلاب عسكري في 1989 تذويب الفروق الداخلية بتحويل الهوية إلى هوية قومية داخل إطار واحد.

وعلى سبيل المثال انتهى حزب البعث العربي الاشتراكي بعد أن انتهت أهدافه المتمثلة في تجسيد الوحدة العربية والتحرر من الاستعمار والإمبريالية وإقامة النظام الاشتراكي العربي، وذلك لاعتماد الحزب في أيديولوجيته على شعار توحيد جميع الدول العربية في دولة واحدة تتبنى المنهج الاشتراكي، مما جعل تطبيق هذه الأيديولوجية يتطلب منهجا وبرنامجا عمليا واضحا لم يكن من سبيل إلى تحقيقه.

الاستقطاب القبلي
عرف السودان ظاهرة الاستقطاب القبلي منذ زمن بعيد بسبب طبيعته القبلية المتجذرة، ولكنه كان يتم في إطار المزايدات الاجتماعية. ولم تَستشْر ظاهرة الاستقطاب القبلي السياسي بشكل كبير إلا في عهد حكومة الإنقاذ في محاولة منها لضم الزعامات القبلية والقيادات عن طريق المساومة مدخلا لتجذير الانقسام داخل مكونات المجتمع السوداني وتوسيع دائرة تباعده عن بعضه البعض من أجل الكسب السياسي.

أول من ابتدع هذه الظاهرة هو عراب نظام الإنقاذ حسن عبد الله الترابي، فمنذ البداية رأى ضرورة تحول السلطة من عسكرية إلى مدنية، ولكن مع الإبقاء على مقومات حكم العسكر وممارساته الشمولية. ولتقوية هذا الخط فقد تم توظيف زعامات وشخصيات قبلية مهمتها الأساسية هي قهر المعارضة غير الموالية والحد من نشاطها.وبعد استبعاد الترابي نفسه أخذت الحكومة راية الاستقطاب ونفذت برامجه إلى أن وصل الأمر إلى طلب اسم القبيلة في الرقم الوطني وهو وثيقة ثبوتية تقوم مقام شهادة الجنسية. هذا الخلط تم فيه تغييب الوعي الذاتي للمواطن السوداني، بعد أن تغلفت الإشارة إلى مفردة القبيلة -بطريقة مباشرة وعلنية- في وسائل الإعلام بغلاف شرعي يتوجب معه تأييدها وإن كان هذا التأييد خارجا عن قناعته الخاصة.
يُعد هذا الواقع الجديد غريبا بكل تفاصيله على المواطن السوداني وثقافته الآنية، التي تعترف -في داخلها- بأصلها وانتمائها لقبيلة معينة أو فرع معين ولكنها تنزع نحو الجماعة ما لم توجد مثيرات خارجية تستغل هذا الانتماء أو تسخره لمصلحتها.إن مثل هذه الازدواجية في التعايش بين الانتماء القومي للسودان الكبير والقبلي وصلت إلى منطقة اللاوعي في الوجدان السوداني من مكامن دينية وقبلية، وفي زحمة هذا التحريك استطاع الجيل الجديد بفضل جهود رجال مستنيرين أن يصلوا إلى مصالحة تاريخية بين الانتماءين. سرت هذه المشاريع السياسية غير النزيهة باستغلالها أسماء القبائل واستخدامها كمحرك أساسي في تشكيل معادلات سياسية حتى أوصلت السودان كله إلى مرحلة التعصب والفتنة القبلية.

وتعكس الإعلانات الرسمية في وسائل الإعلام عن انضمام بعض القبائل وتجديد الولاء لحزب المؤتمر الوطني الحاكم، ومن قبلها عائلات لأصاحب مال وأعمال رجع صدى إلى القبلية والجهوية. وهذا النوع من الاستقطاب الذي برع فيه الحزب الحاكم هو اجتهاد غير مُستحدث ولكنه يتطور يوما إثر يوم لاستغلال المخزون العاطفي للشعب السوداني للترويج لأجندته السياسية.

كما أن هذا الاستقطاب يخلق نوعا جديدا من المزايدات العلنية التي تطرح على بقية القبائل -غير المنضمة للحكومة- جملة استفهامات تشعرها بالابتئاس والخوف في آن واحد على مصيرها إذا لم تحقق المطلوب وهو الإمساك بالمفتاح السحري الملوح به لحل مشاكل أهالي مناطقهم.

الاستقطاب الحزبي
تأخذ ظاهرة الاستقطاب الحزبي أبعادا مختلفة لأنها ترتبط بالحصول على المال أو السلطة، مما يضع حاجزا أمام التحول الديمقراطي، وهذا من شأنه أن يُحدث مزيدا من التفتيت في عضد المجتمع، ويضعف من قوته وترابطه. وفي هذا ضرب في مقتل للتوجه المنتظم نحو التحول الديمقراطي الذي يقوم في أساسه على القوى السياسية المستقرة.

كانت السمة الغالبة للأحزاب السودانية هي انغلاقها على نفسها بسبب سيادة الوضع الشمولي لنظام الحكم في السودان والذي لم تتخلله الديمقراطية إلا في فترات بسيطة تنتهي دوما بانقلاب عسكري. وهو وضع هيأ للأحزاب انكفاءها على قبليتها وطائفيتها، فقدمت للإنقاذ هذه الفرصة على طبق من ذهب، استطاعت استثمارها في تشكيل وإعادة تشكيل منظومتها الحاكمة.

وإذا نظرنا إلى تركيبة القوى السياسية الداخلية في المشهد السياسي السوداني نجد أن تحالف قوى المعارضة يتشكل بصورة رئيسة من عدة أحزاب على رأسها أحزاب تقليدية عمرها أكثر من خمسين عاما.

تدخل هذه الأحزاب بإرادتها في حالة تعام تام عما حدث لها على الأقل في الحاضر السياسي من عمر نظام الإنقاذ من خلافات وصلت إلى التنكيل بها وتشريدها خارج البلاد قبل أن يُسمح لها بالعودة مجددا. أما العودة فلم تكن سوى لعب على هامش الحريات التي لم تتوفر بشكل كامل لممارسة العمل السياسي، ولم يسمح لها إلا بالحد الذي يعمل على تحسين صورة النظام ويخلق نوعا من التوازن المحسوب.

بعد كل ذلك تعود القوى المعارضة إلى الحوار بشكل طبيعي، وكأنها حالة من الخلافات على صعيد العلاقات الاجتماعية وليست اختلافات مبدئية تحركها رؤى وطنية وسياسية. ويكشف ذلك هشاشة التكوين الحزبي لأحزاب عريقة تم تقسيمها بتسكين المنشقين عنها نحو السلطة مما جعلها تتعامل بالأفعال وردود الأفعال.وكثيرا ما يتم وصف تصالح المختصمين سياسيا بأنها حالة سودانية خالصة، لكن لو تم التمعن فيها فهي لا تعدو أن تكون انعكاسا لعدم النضج السياسي، وأن الأحزاب السودانية تمارس السياسة من موقع العلاقات العامة.بمثل هذا النوع من المبادرات التي أتقنتها الحكومة، فإنها تتفنن في جذب بعض القوى السياسية واستبعاد أخرى. ولم يقتصر ذلك على الأحزاب السياسية ولكن حتى الحركات المسلحة المعارضة عملت على تدجين بعضها من أجل محاربة الأخرى.

إن معاناة السودان وأزمته السياسية التي نتجت عنها أزمات اقتصادية طاحنة وعزلة دولية مريرة، لا تضع غير خيار واحد أمام تحالف قوى المعارضة. هذا الخيار هو مبادرة تفضي إلى حل سياسي شامل يحقق للشعب السوداني حالة من التوافق السياسي التي تمكنه من برمجة حراكه السياسي. فعجز الأحزاب أمام مد مبادرات الحكومة وتقصيرها عن القيام بدورها أدى إلى استنساخ الأجندات الإقليمية والطائفية التي فاقمت الأزمة.

وفي اتجاهها نحو تشكيل حكومات جديدة، تعمل الحكومة السودانية على عقد لقاءات مع قيادات الأحزاب السودانية المعارضة كل على حده. وبهذا فهي تتفادى مواجهة التجمع الشكلي لهذه الأحزاب تحت مسمى تحالف قوى المعارضة والذي تم تكوينه عام 2009.

بحشد نظام الإنقاذ لطاقات هذه الكيانات الدينية والقبلية والحزبية وتعبئتها بطريقة منظمة لدعم وتنفيذ برنامجه السياسي، فقد تخلقت شروط سياسية واجتماعية واقتصادية جعلت السودان كله فتيلا مشتعلا ابتدأ بحرب الجنوب ثم انفصاله عام 2011، وقيام حروب أخرى في أقاليم السودان المختلفة.

إن ظاهرة الاستقطاب السياسي في عهد الإنقاذ، لا تحكمها القناعات العقلية الراسخة أو البرامج الفكرية المحددة بقدر ما يحكمها نظام الولاءات والاصطفاف السياسي تحت لائحة الحزب الحاكم وحده.

منى عبد الفتاح

الجزيرة