في فجر السابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر العام الماضي، أعلن حيدر العبادي رئيس الوزراء العراقي عن بدء العمليات العسكرية لمعركة تحرير الموصل من قبضة تنظيم داعش، بمشاركة القوات التحالف الدولي وخلال مجريات المعركة حققت القوات التحالف وقوات الجيش العراقي مكاسب ميدانية في حرب استعادة مدينة الموصل من تنظيم داعش. ومن هنا تستمد معركة الموصل أهميتها الكبرى كونها أحد مركزي الثقل بالنسبة لتنظيم داعش في كل من سوريا والعراق، ومنها أعلن البغدادي ولادة “دولته،” وتحتل موقعا إستراتيجيا فريدا فهي حلقة الوصل بين تركيا وسوريا والعراق بما فيه إقليم كردستان، كما أنها تقع على طريق الحرير الجديد الذي يسعى النظام الايراني منذ عقود ليصل به بالبحر المتوسط، لذا تسعى جميع الأطراف المتأثرة بنتائج معركة الموصل للاشتراك بها لتأمين مصالحها. فضلاً عن الموقع المتميز الذي تحظى به هذه المدينة، إضافة إلى مساحتها الجغرافية الهائلة وعدد سكانها الهام مقارنة ببقية المدن العراقية الأخرى. فالموصل هي ثاني أكبر مدينة في العراق. والحرب في المناطق العمرانية ليست بالمهمة السهلة مثلما بيّنت العمليات الأخيرة لتحرير الرمادي التي يسكنها 200 ألف ساكن والفلوجة التي يسكنها 275 ألف ساكن، فيما يقدر عدد سكان الموصل بـ1.8 مليون (الكثير منهم غادروا المدينة بحثا عن ملجأ آمن).
فالمتابعون من محللون سياسيون وخبراء عسكريون للشأن العراقي يرون إن العملية العسكرية ستكون الجزء السهل، وأن التحدي الأصعب بعد الحملة العسكرية هو إدارة الموصل في مرحلة ما بعد داعش، فالتحدي الأكبر بالنسبة لهم هو كيفية إدارة الموصل ما بعد داعش من أجل تثبيت هزيمة سياسية دائمة تنظيم داعش والحيلولة دون رجوعه إلى المدينة. فمعركة الموصل مغامرة قد تصعب النجاة من عواقبها، في حال لم يتم وضع خطة بعيدة المدى تجيب على أسئلة من قبيل: كيف يجب التعامل مع المدينة بعد داعش لضمان استقرارها على المدى الطويل؟ وكيف يمكن تجنّب وقوعها مرة أخرى في أيدي تنظيم متشدد مثل داعش أو غيره أو تصبح منطقة يسيطر عليها أمراء الحرب الطائفية؟ وهو ما يستوجب تحضير إطار سياسي لما بعد المعركة والسعي نحو تحقيق إصلاحات سياسية تكون منصة انطلاق نحو طريق الاستقرار الشامل.
وفي سياق هذه الأسئلة الجوهرية لمستقبل مدينة الموصل بشكل خاص والعراق بشكل عام، بدا لدى إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب الأميركية الجديدة فكرة تتبلور في الحرب على «داعش»، لا تقتصر على نشر المروحيات والمدفعية في الموصل وتعزيز وجود القوات الخاصة، بل تشكل جبهة أميركية خليجية تساهم في الحرب على «داعش»، شريطة أن المناطق التي تتحرر من «داعش» يجب ألا يحتلها النظام الإيراني أو ميليشيات تابعة له، هذا هو العنوان الرئيسي الذي خرجت به وثيقة موسكو وزيارة وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس للخليج والعراق. أي أن هناك اتفاقاً أميركياً روسياً تركياً خليجياً على إنهاء التمدد الإيراني في العواصم العربية، ويجب أن نكون واضحين جداً في هذه الرسالة إن أراد العالم تعاوننا للقضاء على تنظيم داعش. مقابل أي مساهمة خليجية أو عربية في الحرب على «داعش»، سواء في العراق أو في سوريا، يجب أن يكون النظام الإيراني خارج تلك المناطق، وأن تكون هذه الرسالة واضحة أكثر للحكومة العراقية، التي قال جيمس ماتيس إن الولايات المتحدة الأمريكية ستبقى داعمة للعراق حتى بعد تحريره من «داعش»، من أجل ذلك زار جيمس ماتيس العراق في شهر شباط/فبراير الماضي، ليؤكد على أهمية التعاون العسكري بين حكومتي الولايات المتحدة الأمريكية والعراق في الحرب ضد الجماعات المتطرفة. وهذا التعاون قائم بالفعل، حيث أن التقارير تشير إلى أن المستشارين العسكريين الأميركيين يساعدون القوات العراقية في المعركة لاستعادة الموصل من «داعش». ومن المتوقع أن توسع إستراتيجية ماتيس مجال هذا التعاون، على رغم عدم الوضوح في شأن ما إذا كان هذا يعني إرسال المزيد من القوات الأميركية إلى العراق، ولكن على رغم أهمية وضرورة زيادة الدعم الأميركي للحكومة العراقية في حربها ضد «داعش» فإن هذا غير كافٍ. فمن أجل أن توفر إستراتيجية ماتيس شيئاً أكثر فعالية مما فعلته الولايات المتحدة في عهد إدارة أوباما، فإنها في حاجة إلى أن تتخطى الأمور العسكرية وأن تكون مبنية على تفكير بعيد المدى.
وانطلاقا من التقدم الميداني، يرى المتابعون من محللون سياسيون وخبراء عسكريون للشأن العراقي أن على الإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب التي رفعت من حجم مشاركتها في المعركة لأنها نهائية وهامّة لوضع ترتيبات ما بعد داعش في العراق، أن تشجع بغداد على تحضير إطار سياسي للموصل ما بعد المعركة من الآن. ويجب أن يتضمن هذا التشجيع الخطوات التالية:
* الضغط على بغداد لإعداد تسوية سياسية دائمة تخص الموصل ومحافظة نينوى المحيطة.
* توفير المساعدات الإنسانية ومعاضدة الجهود العراقية للحيلولة دون تحول مخيمات اللاجئين إلى قواعد داعشية.
* تأسيس إطار سياسي طويل المدى يمنح السنة القلقين في العراق رهانا وأملا عبر تشريكهم في حكومة وطنية ذات قاعدة واسعة.
ويحتاج السكان المحليون من العرب السنة إلى رؤية بديلة ومقبولة، تكون ذات مصداقية عن الوضع الراهن قبل مساندتهم المعلنة للجيش العراقي. فالعديد من مناصري داعش هم ليسوا عقائديين ولكن معظمهم سكان محليون او قادة او قبليون واقعيون يبحثون عن تمثيل في السلطة لهم ولمجتمعاتهم. فسياسة رئيس الحكومة السابقة نوري المالكي دفعهم الى الالتحاق بتنظيم داعش اذ ان دعمهم له كان افضل بالنسبة لهم من البقاء في ظل حكم المالكي الذي سبب قلقا كبيرا داخل الشارع السني.
ومن أجل تثبيت الاستقرار المطلوب في العراق، أنه يتعيّن على الولايات المتحدة الأمريكية تبني جهود تحقيق الاستقرار في مرحلة ما بعد انتهاء الصراع وإعادة الإعمار بمشاركة أطراف التحالف والعمل مع الحكومة العراقية لفض الخلافات حول مسائل اللامركزية، وآلية الحكم، والأمن، والسيادة على الأراضي. لكن قبل ذلك هناك مراحل أخرى يجب اتباعها للوصول إلى مرحلة إعادة الأعمار، من ذلك أن استمرار الدعم العسكري والاقتصادي مرهون بإنشاء قوة عسكرية متماسكة بتعددية طائفية، ويمكن أن يتم ذلك من خلال تطوير جهاز الحرس الوطني، مما يسمح بانخراط قوات سنية، ونزع الشرعية عن أي مجموعة غير مرخصة أو ميليشيا مستقلة. واستنادا إلى واقع أن العراق يعتمد على تدفق الأسلحة الأميركية لمحاربة داعش، فينبغي استغلال هذا الواقع للمطالبة بتحقيق إصلاحات سياسية كمنصة انطلاق على طريق الاستقرار الشامل، وتعزيز جهود انخراط ودمج السنة في النظام السياسي للعراق ومناهضة وتشكيل توازن أمام النفوذ الإيراني في العراق.
على رغم أن تحرير الأراضي العراقية من قبضة «داعش» يبدو ناجحاً عسكرياً، إلا أن هذا يحجب وجود بعض المشاكل على المدى البعيد في العراق، والتي يجب معالجتها من أجل منع «داعش» أو الجماعات المشابهة له من الظهور مرة أخرى في المستقبل بسبب التظلم المستمر. بعض هذه المشاكل يتضمن مسألة من سيحكم المناطق المحررة بعد «داعش»، خصوصاً أن المجتمع السنّي في العراق يواجه انقسامات داخلية. قد يتحد المجتمع الشيعي في العراق كذلك في الحرب ضد «داعش»، لكن ليست هناك اتفاقية بعد بخصوص المشهد السياسي بعد هزيمة التنظيم، حيث أن القادة السياسيين مستمرون في الهيمنة على المجتمع بأجنداتهم التنافسية. وتصر إيران على دعم نوري المالكي الذي يرى مؤيدوه أن الحرب ضد «داعش» تشكل فرصة لاستعادة السلطة سواء كانت في شكل رسمي أو غير رسمي، بينما خصومه السياسيون من الطائفة الشيعية أيضاً يتنافسون بين بعضهم. أما المجتمع الكردي فهو يشهد كذلك تضاربات سياسية مماثلة بين أحزاب وقادة مختلفين. وهكذا فإن الانقسامات الطائفية ليست وحدها ما يفسد المشهد الاجتماعي والسياسي في العراق – على رغم أن الحرب على «داعش» تمكنت من توحيد الكثيرين من طوائف وأديان وأعراق مختلفة – بل هناك أيضاً الصدامات السياسية داخل الطائفة الواحدة والعرق الواحد. أي إستراتيجية فعالة ضد «داعش» يجب أن تتناول البعد السياسي للمستقبل.
فإذا فشل القادة السياسيين الشيعة والسنة والكورد في الوصول الى استقرار سياسي حول مستقبل الموصل او مستقبل المناطق السنية الاخرى. فاذا افترضنا ان الحكومة العراقية لن تكون قادرة على تمثيل السنة في الموصل بصورة شرعية فان تنظيم داعش بشكله الحالي او بشكل اخر مكرر سيظهر من جديد. في غضون ذلك فان التنظيم سيسعى الى تنظيم تمرد يفاقم من حدة التوتر الطائفي و يعمق من ازمة الثقة ومشكلة التمثيل السني بين المحافظات السنية والحكومة المركزية في بغداد ، وبذلك يزرع بذور التمرد من جديد.
فالسؤال هو هل القادة السياسيون الذين يحكمون البلد باستطاعتهم التغلب على الخلافات الحالية والاستفادة من الشخصيات الوطنية العراقية لتكوين سياسة حكم مستندة على المعايير الوطنية والتي تضمن للسنة التمثيل والاستقلالية. فإن مثل هكذا مشروع سيضمن التخلص من داعش في البلد. اما في حالة عدم الوصول الى الاستقرار السياسي فان الامور ستكون اكثر صعوبة بعد انتهاء المعركة اذ ستتصاعد حدة المنافسة لملئ الفراغ في الموصل. اما كون بغداد ضعيفة وغير قادرة على حل هذه القضية سيبدد النصر المرتقب، النتيجة التي ينتظرها تنظيم داعش.
معمر فيصل خولي
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية