«برنارد لويس» مستشرق معروف جيداً فى مجال الدراسات الإسلامية بالولايات المتحدة، أعطى وقتاً وجهداً لدراسة ظاهرة الإسلام السياسى وعلاقتها بالإرهاب، وأصدر حولها عدة كتب، وكان الرئيس «بوش الابن» استقبله بعد 11 سبتمبر 2001، واستمع إليه، ويمكن لكثيرين أن يختلفوا مع «لويس» فى بعض آرائه وتحليلاته لظاهرة الإرهاب المتأسلم، لكن لن يختلف كثيرون على جديته واهتمامه البالغ بالمسألة.
وقبل أسبوع صدرت الترجمة العربية لكتاب «لويس» عن المركز القومى للترجمة، بعنوان «الإيمان والقوة.. الدين والسياسة فى الشرق الأوسط»، الذى صدر بالإنجليزية سنة 2010، وتولته جامعة أوكسفورد.
فى هذا الكتاب يتعرض «لويس» لمصر، ويذكرها عدة مرات، فى سياقات مختلفة، تستحق كلها أن نتوقف عندها بالمناقشة والتحليل والسؤال، إحدى هذه المرات وهو يتعرض لأشكال ونظم الحكم المختلفة، وأول هذه النظم، ما يطلق عليه «الإمبريالى»، وسوف أنقل هنا حرفياً ما كتبه ويرد فى الترجمة العربية التى قام بها الأستاذ أشرف الكيلانى، صفحة 164: «من المؤكد أننا نتفق جميعاً على أن الإمبريالية شىء مخيف، كونها تعديا، ويجب القضاء عليها أينما وُجدت، وإعطاء الشعب حريته، فبعد أن ظل شعب هونج كونج طيلة مائة عام تحت وطأة الحكم الاستبدادى البريطانى، إذا به يجد الحرية فى حضن الصين الأم»، وينتقل «لويس» من هونج كونج إلينا، فيقول، فى صفحتى 164، 165: «واستشهد بذلك المثال- غير المتفرد بأى حال- للدلالة على أنه بالرغم من أنه من الواضح أن الإمبريالية كانت بها عيوب ونواقص كثيرة جداً، وقوة مدمرة وهدامة بطرق عدة فى التاريخ، فقد كان لها جانب إيجابى فى نواح معينة أيضاً، حيث طمأننى المصريون أكثر من مرة، عندما لم أجد أحداً غيرهم يطمئننى، إلى أن فترة الاحتلال البريطانى كانت الأكثر حرية طوال تاريخهم، السابق واللاحق، الممتد لآلاف السنين».
هذه طريقة «لويس» فى الكتابة، نفس أسلوب خطاب أوباما فى جامعة القاهرة، سنة 2009، يقول فكرة إيجابية، ثم يضع استثناءات تسحب منها كل إيجابياتها، هو يريد أن يذكر أن للاحتلال الأجنبى فوائد وإيجابيات، لعله وقت كتابة هذا الكلام أراد قطع الطريق على من نددوا بالاحتلال الأمريكى للعراق، لكن من هؤلاء المصريون الذين أقنعوه بأن فترة الاحتلال البريطانى لمصر كانت أزهى فترات الحرية فى تاريخنا؟! ولو أنها كذلك.. فلماذا قامت ثورة 1919؟ ولماذا هبت انتفاضة 1935؟ وفيما كان كفاح مصطفى كامل وصحبه، مطلع القرن العشرين، لن أناقش ذلك الآن، لكن من هؤلاء؟!
أعرف أن بعضنا من المتثاقفين والمتلبرلين يجيدون لعن كل شىء فى مصر أمام الأجانب، وخارج مصر، حتى لو كانوا فى بلد عربى، عن تصور أن ذلك سوف يمنحهم تفرداً وتميزاً خاصاً فى نظر من ينصت إليهم، وربما لأغراض وأهداف أخرى، بعض هؤلاء نسمعهم هنا يقولون ذلك همساً، لكنه يقال للدوائر العليا فى الولايات المتحدة.
منذ إعطاء الضوء الأخضر فى السبعينيات للهجوم على ثورة 1952، وعلى جمال عبدالناصر، ومع ارتفاع نبرة الهجوم على الديكتاتوريات العربية سنة 2003، مع إسقاط صدام حسين، ثم القذافى من بعده، وهناك نغمة سائدة فى عالمنا العربى من تمجيد زمن الاحتلال والاستعمار، وأنا متأكد أن ذلك استغل فى بعض الدوائر الغربية، لتمرير احتلال أمريكا للعراق، فترة، وربما لتمرير احتلال إسرائيل لفلسطين حتى اليوم.
للتذكرة- فقط- فإن ثورة 1919 قادها رموز الليبرالية المصرية مثل سعد زغلول ولطفى السيد وعبدالعزيز فهمى، وكذلك فإن مصر، فى عهد الاحتلال، لم تكن جنة الديمقراطية، أول محاكمة لشاعر، والحكم عليه بالسجن، كانت للشاعر «على الغاياتى»، بسبب ديوانه «وطنيتى»، وكان زمن الاحتلال، وفى ذلك الزمان عجز د. طه حسين عن نشر كتابه «المعذبون فى الأرض»، بمصر، وأصدره من بيروت، وصُودر كتاب عبدالرحمن الرافعى عن أحمد عرابى، وصُودرت مذكرات إسماعيل صدقى، وبعد حريق القاهرة، وإقالة حكومة الوفد، خرج د. طه حسين من مصر شبه هارب، بعد أن اتجهت النية للتنكيل به، حيث اعتبر «شيوعياً» بسبب دعوته إلى مجانية التعليم، وسرت نغمة أن الشيوعية وراء حريق القاهرة، وظل د. طه حسين خارج مصر، لم يعد إليها إلا فى خريف سنة 1952.
حلمي نمنم
المصري اليوم