في عام 2011 عندما بدأت حدة الأمور تتضح في سورية وباءت جميع المحاولات لإقناع الرئيس السوري بسلوك طريق الإصلاح والتصالح مع القوى الشعبية بالفشل، كان لي لقاء في برنامج تلفزيوني حذرت فيه من تداعيات هذه الأزمة التي لم تكن تشبه ما حصل في تلك الحقبة في مصر وليبيا واليمن.
نقلت عني وكالة «رويترز» أنني قلت أن أمام الرئيس بشار الأسد أسبوعاً فقط للبدء بالإصلاح وبعكس ذلك فسوف تتداعى الأمور ليواجه تدخلاً خارجياً يحمل في طياته الكثير من الأهوال. استغربت هذه التغطية حيث إنني لم أكن في وارد تحديد مدد معينة لأمر لا نستطيع التحكم به. أدليت بتصريح لوكالة أنباء الأناضول قلت فيه إن مهلة الأسبوع أقحمت في تصريحي حول الأوضاع. قمنا باستقصاء مصدر الخبر، إنه منقول من ملف «ديبكا» الموالي للحكومة الإسرائيلية.
نتذكر جميعاً أن الفورة الشعبية التي عمت العديد من بلدان المنطقة كانت ترفع شعار «الشعب يريد إسقاط النظام». ولكن الأمر كان مختلفاً في سورية حيث كانت المناداة على شكل «الشعب يريد إصلاح النظام». من هذا المنطلق، أجريت محاولات كثيرة من جانب الدول المعنية بالأمر ومن الجامعة العربية، وكان لتركيا دور بارز في هذا الموضوع فقد استقبلت انقرة ممثلين عن الرئاسة والحكومة السورية وتم تقديم الكثير من الملفات حول أفضل السبل لإجراء إصلاحات تلبي مطالب الشعب من قانون الانتخابات إلى قانون الأحزاب السياسية وتوالت الزيارات إلى دمشق من جانب الكثير من المسؤولين.
أذكر بألم محاولة الفرصة الأخيرة، إذ كتب الرئيس الحادي عشر للجمهورية التركية خطاباً مفصلاً إلى الرئيس السوري، وبما أني كنت أتولى مهمة كبير مستشاريه لشؤون الشرق الأوسط فقد قمت بتحرير الخطاب باللغة العربية، وكان المفروض أن أنقل هذه الرسالة شخصياً، ولكن وزير الخارجية آنذاك فضل أن يكون هو من يحمل الرسالة لتضاف زيارته الى العديد منها والتي بلغت العشرات.
لا أذيع هنا سراً، فقد تناولت الأخبار نبأ هذه الزيارة ثم محتوياتها، وكان الرئيس يقول فيها بخطاب أخوي أن الإصلاحات إذا لم تتم على الوجه المطلوب وفي زمن قريب فسيأتي الزمن الذي سيرى النظام فيه أن ما قدمه كان قليلاً جداً ومتأخراً جداً، وأن رياح التغيير ستجرفه لا محالة.
كم كنا نتمنى أن تلقى هذه المناشدات أذناً صاغية لكي لا نرى نزيف دم مؤلماً في هذه البقعة العزيزة علينا، ولكن العناد غير المبرر وتدخلات من يهمهم بقاء النظام السوري على هذه الشاكلة ومحاولة البعض أن تكون سورية حديقة خلفية لهم وأدت جميع المحاولات المبشرة بالخير وانتهى الصراع ليكون شاملاً وتبدأ عسكرة الموضوع وسحب البساط من تحت أقدام النظام السوري ليقرر الآخرون سواء في نيويورك أو في آستانة أو في جنيف كيف يضعون خريطة طريق للمستقبل السوري.
الآن وبعد مرور ست سنوات على هذا الموضوع، نرى أن جميع القوى المؤثرة في العالم تتجاذب الملف السوري ولا يحتل موقف النظام السوري في هذا الأمر إلا النذر القليل، وكأن الموضوع يهم العالم شرقاً وغرباً ولا يهم الشعب السوري المنكوب نفسه.
نحن الآن على مشارف الاقتناع بضرورة الحل السياسي من جانب جميع الأطراف، أي أننا عدنا الى المربع الأول الذي كنا ننادي فيه بعدم عسكرة الحل في سورية وتغليب الحكمة والحل السياسي لإطفاء هذه النار المشتعلة في جنبات هذه المنطقة.
الاجتماعات المتكررة في آستانة، العاصمة الجديدة لجمهورية كازخستان أظهرت للعالم أجمع أن الحل يمكن أن يكون عملياً اذا كانت هناك أطراف ضامنة لأي اتفاق يجمع عليه كل الفرقاء وفق قرار مجلس الأمن 2254. لقد أكدت الأطراف المشاركة في اجتماع آستانة الأول أن الحل لهذا الصراع المضني يمكن تحقيقه من خلال عملية سياسية.
ما أفرزه هذا الاجتماع هو تحول روسيا من قوة مساندة لأحد الأطراف عسكرياً وهجومياً الى طرف ضامن لوقف إطلاق النار، كما أدى الى تحجيم دور ايران والميليشيات المساندة لها ورجوعها الى حجمها الطبيعي الذي أرادت توسيعه في شكل أثار الريبة والشك ليس في سورية وحدها بل في عموم المنطقة.
اجتماع آستانة لم يكن إطلاقاً بديلاً لمؤتمر جنيف الذي عقد وسيتوالى عقده، ما دام الأمر لم يصل إلى النتيجة المرجوة. والمفروض أن يُجمع العالم ممثلاً بالأمم المتحدة التي يشارك ممثلها في الاجتماع على ضرورة وقف نزيف الدم والانتقال الى عملية سياسية يخرج منها السوريون بدولة مدنية قائمة على الالتزام بسيادة واستقلالية ووحدة أراضي الجمهورية العربية السورية باعتبارها دولة حضارية لا طائفية فيها.
كم يا ترى ستعقد اجتماعات لاحقة في جنيف وحبذا لو وجد العقل والتعقل طريقه لإنهاء الأزمة الطاحنة بعد كل هذه المصائب، وإلا فإن الذئاب جاهزة لافتراس الجسد السوري ونهش ما تبقى من مقوماته. المطلوب مشروع وطني سوري وحقيقي لا يجهز على مقومات الدولة وينبع من ضمير الأمة ويا حبذا لو تفهم النظام السوري أن للحقيقة وجهاً واحداً.
ألم يكن ما تم تقديمه قليلاً جداً ومتأخراً جداً؟
صحيفة الحياة اللندنية