هل ثمة وزن حقيقي في المنظومة المعاصرة للعلاقات الدولية لالتزام الأمم والشعوب في إدارة شئونها الداخلية بالقيم الديمقراطية المتمثلة في سيادة القانون، في تداول السلطة عبر الاختيار الحر للمواطن وعبر مشاركته الطوعية في الحياة السياسية كنشاط سلمي وتعددي وحر؟
هل ثمة وزن حقيقي في المنظومة المعاصرة للعلاقات الدولية لالتزام الأمم والشعوب فيما بينها بالقيم الديمقراطية «العالمية» المتمثلة في تجنب الحروب والصراعات المسلحة والمواجهات العسكرية، في رفض توريط البشرية المعاصرة في معاناة مستمرة من جراء المذابح وجرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية وسقوط الأبرياء ضحايا للحروب الأهلية ـ المدفوعة بصراعات الموارد كما بصراعات العرق والدين والمذهب ـ وضحايا لجنون الإرهاب ولانتهاكات حقوق الإنسان؟
هل ثمة وزن حقيقي في المنظومة المعاصرة للعلاقات الدولية لالتزام الأمم والشعوب بالقيم الديمقراطية بعيدا عن احتفاليات توقيع المواثيق والعهود العالمية لحقوق الإنسان وللحريات وجلسات التصديق عليها في البرلمانات المنتخبة ومسخها من البرلمانات المعينة، بعيدا عن بعض نقاشات الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس أمنها وأنشطة المجلس الأممي لحقوق الإنسان وبعض الوكالات الأممية المتخصصة، بعيدا عن نمطية إعلان حكومات الغرب الأمريكي والأوروبي عن برامج «لدعم الديمقراطية» ولتنشيط «جهود التنمية المستدامة» وعن مخصصات مالية لهذه البرامج، بعيدا عن امتناع الولايات المتحدة الأمريكية والأوروبيين التدخل الإنساني والدبلوماسي والعسكري الفعال عندما تنشب الحروب الأهلية والصراعات المسلحة في بلدان لا أهمية استراتيجية كبرى لها ولا مصالح حيوية للغرب فيها بل وتجاهلها لمذابح وجرائم إبادة في مقابل «الاندفاعات المتكررة» للتدخل العسكري في المناطق والبلدان ذات الأهمية الاستراتيجية وبمعزل عن مظلة الشرعية الأممية وباستدعاء فاسد للدفاع عن الحقوق والحريات وبادعاء زائف بالانتصار للقيم الديمقراطية (كما حدث في الغزو الأمريكي-البريطاني للعراق 2003)؟
البحث عن إجابات موضوعية على مجموعات التساؤلات هذه حتما يدفع إلى إدراك أن الفكرة الديمقراطية تمر لجهة قيمها الكبرى بأزمة عاصفة، وإلى التثبت من عودة أفكار أخرى لمنازعتها المصداقية في أطر إقليمية ودولية متنوعة، وإلى الاعتراف بأن خطاب «الانتصار النهائي» للديمقراطية لم يعد له ذات التوهج المعرفي والمجتمعي والسياسي الذي كان له في خواتيم القرن العشرين بعد سقوط الاتحاد السوفييتي السابق وانهيار الكتلة الشيوعية بحكومات الأحزاب الواحدة.
فالولايات المتحدة والبلدان الأوروبية، وهي كانت تأتي تقليديا في طليعة المجتمعات والدول التي يشار إليها إيجابيا فيما خص الالتزام بقيم سيادة القانون وتداول السلطة وصون الحقوق والحريات في إدارة الشؤون الداخلية، تواجه اليوم عصفا منظما بالفكرة الديمقراطية وقيمها. من جهة، تتواصل انتكاسات سيادة القانون بسبب نزوع الحكومات المنتخبة في الغرب الأمريكي والأوروبي للتغول أمنيا واستخباراتيا على المواطن وإخضاعه جهرا أو سرا لصنوف مختلفة من المراقبة الدائمة، وتمرير القوانين الاستثنائية لإضفاء شرعية إجرائية على تشويه هوية «المواطن الحر» باختزال وجوده الفردي والخاص وكذلك وجوده في سياقات جماعية وعامة إلى «مكمن خطر» أو «مصدر تهديد» محتمل ينبغي بالضرورة إخضاعه للمراقبة وبالتبعية ضبطه والسيطرة عليه.
من جهة ثانية، تفرغ هيمنة النخب الحزبية والسياسية والإدارية (والأخيرة تتكون داخل المؤسسات والأجهزة الرسمية وفي أروقة الخدمة العامة وبيروقراطية الدولة) ومعها المصالح الاقتصادية والمالية وجماعات ضغطها على المؤسسات التشريعية والتنفيذية المنتخبة هذه من الجوهر الديمقراطي بقصرها ممارسة المواطن لحق الاختيار الحر لممثليه (نوابه) التشريعيين والتنفيذيين على مجموعات محدودة العدد من السياسيين والنافذين. كذلك يمتهن الجوهر الديمقراطي باستبعاد قطاعات شعبية واسعة، بعضها مؤطر داخل النقابات العمالية والمهنية والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، من عمليات صناعة القرار العام والسياسات العامة ومن ثم الإلغاء شبه الكامل لإمكانياتهم الفعلية لجهة التأثير في تحديد صالح المواطن والمجتمع والدولة الذي يترك لهيمنة النخب والمصالح الكبرى. وبالمثل تمتهن الديمقراطية بغابات من الأسوار والحواجز المشيدة تارة بأدوات قانونية وسياسية وتارة أخرى بأدوات بيروقراطية وإجرائية للفصل بين المؤسسات التشريعية والتنفيذية المنتخبة وبين المواطنات والمواطنين الذين تتراجع بفداحة قدرتهم على الإدراك الواعي «لما يحدث» في أروقة البرلمانات والحكومات، وتنقل لهم باستمرار انطباعات زائفة بشأن «تعقد حقائق وتشابك تفاصيل» دولاب العمل التشريعي والتنفيذي و»استعصائها» على فهم «العوام»، وتطلب منهم بالتبعية الاكتفاء بالمشاركة في مواسم الانتخابات المتتالية والتعبير عن رضاهم أو رفضهم للقرارات والسياسات العامة (إن نجحوا في إدراك حقائقها وفهم تفاصيلها) من خلال بطاقات التصويت. ثم تؤدي هيمنة النخب والمصالح الكبرى على المؤسسات التشريعية والتنفيذية المنتخبة، والاستعلاء الصارخ في التعاطي مع المواطن ودوره في صناعة القرارات والسياسات العامة إلى عزوف المواطن عن المشاركة في الانتخابات وهجره لمراكز الاقتراع وبطاقات التصويت أو تودي به إلى مهالك التصويت للشعبوية المتجسدة اليوم في الأفراد والحركات والأحزاب أصحاب الأجندات العنصرية والحمائية، وكأن المواطن بذلك وباختياره الحر يلغي حلقة الوصل الأخيرة بينه وبين الديمقراطية النيابية (أو التمثيلية) بعد أن استبعدته وهمشته بقسوة النخب والمصالح الكبرى.
من جهة ثالثة، نحن في الغرب بمعية الفجوات الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية بين الأغنياء وميسوري الحال والطبقات الوسطى وبين الفقراء ومحدودي الدخل والضعفاء من المهاجرين غير الشرعيين والتي يتزايد اتساعها بسبب انقلاب العدد الأكبر من الحكومات الغربية على سياسات الرفاه وتخليها عن الكثير من مكونات وإجراءات العدالة الاجتماعية في سياق الصعود السريع للبرامج النيوليبرالية – الطبعة المتوحشة من الرأسمالية الغربية. تبلور هذه الفجوات حقائق مؤلمة في الغرب الأمريكي والأوروبي، منها التمييز ضد قطاعات شعبية واسعة ومنها تهميش بيئات سكانية كبيرة على نحو يسقط مبادئ تكافؤ الفرص والتوازن المجتمعي الضامن للكرامة الإنسانية وللعدالة الاجتماعية (في حدودها الدنيا على الأقل) في هوة سحيقة ويفقد تأسيسا على ذلك القيم الوطنية للفكرة الديمقراطية الكثير من مصداقيتها الأخلاقية والإنسانية (وعد العدل والحق والحرية والمساواة) وفعاليتها المجتمعية والسياسية (وعد الرخاء والترقي الاجتماعي والمبادرة الفردية). بل ويحيي بعد موات الحضور المجتمعي والسياسي لمنظومتين من الأفكار غير الديمقراطية، اليمين الشعبوي-العنصري ويسار الدولة الأبوية-المهيمنة على المواطن والمجتمع، بقسوة صادمة.
من جهة رابعة، تحكم النخب الحزبية والسياسية والإدارية ومعها المصالح الاقتصادية والمالية، وعلى الرغم من توفر ضمانات قانونية وإجرائية لصون حرية التعبير عن الرأي ولابتعاد المؤسسات التشريعية والتنفيذية المنتخبة عن العبث بها ولمنع السطوة الاحتكارية، فرض قبضتها على المجال العام عبر حقائق الثروة والنفوذ والملكية الخاصة لوسائل الإعلام ودور النشر وغيرها، وتوظف مساحاته لتدوير قناعاتها ورؤاها وأنساقها مدعية احتكار الحق الحصري للحديث باسم الأخلاق والإنسانية وقيم الديمقراطية التي يروج للتحايل على أزمتها العاصفة. كذلك تتورط نفس النخب في التشكيك دون نقاش موضوعي وباستعلاء صارخ في أسباب جاذبية منظومات الأفكار البديلة إن تلك التي تعترف من داخل الانتماء للفكرة الديمقراطية بأزمتها وتبحث لها عن مخارج أو الأخرى التي تسعى لتجاوز القيم الديمقراطية بشعبوية سلطوية من اليمين أو أبوية سلطوية أيضا من اليسار. واستبعاد مثل هذه المنظومات البديلة دون نقاش لن يرتب سوى تعميق أزمة الديمقراطية.
أخيرا، وفيما خص التزام الغرب الأمريكي والأوروبي بالقيم الديمقراطية عالميا فمعاول تآكل المصداقية الأخلاقية والإنسانية فاعلة بقوة، ولها ولانصراف الأمم والشعوب عن ادعاء الحكومات الأمريكية والأوروبية الاهتمام بدعم الديمقراطية خارج حدودها والانتصار للحقوق وللحريات وللمساواة ولتقرير المصير أسباب جلية. ولنا في الضغوط الغربية التي استهدفت سحب تقرير منظمة «الاسكوا» التابعة للأمم المتحدة عن نظام الفصل العنصري الذي أسست له الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة إزاء الفلسطينيين وفي تماهي رأس المنظمة الدولية مع تلك الضعوط مثال صارخ.
عمرو حمزاوي
صحيفة القدس العربي