تسلط التقارير الأخيرة التي تحدثت عن قيام روسيا بنشر قوات خاصة في قاعدة جوية في مصر بالقرب من الحدود مع ليبيا، تسلط الضوء قلق الكرملين المتنامي من الوضع المحلي لدى عميل الكرملين منذ أمد طويل. فمنذ الإطاحة بمعمر القذافي، أصبحت ليبيا، التي تحتل موقعاً استراتيجيا والغنية بالنفط، ميدان معركة يشهد منافسة بين العديد من القبائل المحلية والمجموعات المتشددة، بالإضافة إلى حكومتين متنافستين أيضاً.
ولا تستجيب حالة الشؤون الراهنة في ليبيا لدور موسكو الجديد ولا لرؤيتها للشرق الأوسط. وقد ترك الصراع المتواصل على السلطة بين الحكومتين اللتين تتمركز إحداهما في طرابلس والأخرى في طبرق، فراغاً سياسياً في كامل أنحاء البلد، واحداً يقدم الدعوة والمأوى للإرهابيين الإسلاميين في كل أنحاء المنطقة.
في الأثناء، ينظر الكرملين إلى حكومة فايز السراج على أنها ضعيفة وغير قادرة على ضمان النظام والاستقرار. وينظر إليها الكثيرون في موسكو أيضاً على أنها نظام دمية نصبه حلف شمال الأطلسي من أجل الحد من فضاء النفوذ الروسي، ولمساعدة الغرب في وضع يده على مقدرات البلد النفطية.
وهكذا، وببساطة تامة، يكمن هدف روسيا في علاقاتها مع ليبيا في تنصيب نظام موال للكرملين. ومع ولعها بالاستقرار ووجود الرجال الأقوياء العلمانيين، ترى روسيا في ليبيا فرصة لتوسيع وبسط رؤيتها للشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
يُزعم أن موسكو قدمت مساعدات عسكرية لرجل ليبيا القوي والقائد العسكري، خليفة حفتر، ويقال إن شركة الدفاع الخاصة الرئيسية في روسيا “مجموعة أر. أس. بي.” قامت بتنفيذ عملية تطهير ألغام ناجحة في ميناء بنغازي في وقت سابق من هذا العام.
وكان حفتر، الضابط الكبير السابق في جيش القذافي، قد وقع في أسر القوات التشادية في العام 1987، وأجبر في نهاية المطاف على الهرب إلى لولايات المتحدة. لكنه عاد إلى ليبيا بعد مقتل القذافي؛ حيث رقاه إلى رتبة مشير المجلس الانتقالي الوطني، هيئة الوضع القائم التي حكمت في البلد بعد الحرب الأهلية. ثم اصطف حفتر بعد ذلك إلى جانب الحكومة في مدينة طبرق التي تقع في شرقي البلاد، والتي عينته قائداً للجيش الوطني الليبي.
يعارض حفتر بشدة أي ظل للنزعة الإسلامية في السياسة، ويدافع عن ليبيا موحدة. ويرى العديدون في موسكو فيه تناسخاً روحياً للقذافي والقادر على وضع حد لامتداد حالة الفوضى منذ ستة أعوام في البلد الذي مزقته الحرب.
وكان الرجل الليبي القوي قد زار موسكو أصلاً مرتين في العام الماضي. واجتمع هناك مع وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف ومع غيره من المسؤولين الدبلوماسيين الرئيسيين الآخرين. كما زار حاملة الطائرات الروسية” الأدميرال كوزنتسوف” في البحر الأبيض المتوسط، وتحدث عبر الفيديو مع وزير الدفاع الروسي، سيرجي شواغو.
وفي وقت سابق من هذا الشهر، قال رئيس مجلس النواب الليبي، عقيلة صالح، لوكالة نوفوستي الروسية للأنباء “إن موسكو وعدت بتقديم مساعدات في القتال ضد الإرهاب”. ووفق ناطق بلسان الجيش الوطني الليبي، فقد تلقى 70 جندياً على الأقل من جنود حفتر علاجاً طبياً في موسكو في العام الماضي.
وكانت قوات حفتر قد منيت بسلسلة من الهزائم في ذلك الوقت، والتي كان أحدثها أمام كتائب الدفاع عن بنغازي. وخشية أن يفضي تدفق الأسلحة والمساعدات المالية من دول الخليج إلى قلب الميزان ضد رجلها القوي المختار، بذلت روسيا جهداً منسقاً لزيادة الاستخبارات ولدعم التدريب لضمان أن يظل حفتر خياراً حيوياً في ليبيا.
يستطيع القليلون فقط إنكار المزايا التي ستجنيها روسيا إذا ما قُدر لحفتر أن يستولي على زمام الأمور في ليبيا. فبالإضافة إلى تعزيز تواجد الكرملين القوي أصلاً في المنطقة، قد يؤدي ذلك أيضاً إلى إحياء الروابط الاقتصادية الثنائية التي عانت من تراجع خطير بعد رحيل القذافي. ولليبيا، كما يجدر التنويه، سجل مطول في شراء واستخدام الأسلحة الروسية، وثمة العديد في موسكو الذين ينتظرون بشغف استئناف مشاريع السكة الحديدية والبنية التحتية التي تأجلت بسبب سنوات الحرب وعدم الاستقرار.
ومن جهتها، تبدي النخب الليبية شغفاً في العودة إلى ممارسة النشاط التجاري مع روسيا. وعلى الرغم من حقيقة أن الكثيرين يرون أن الإطاحة بالقذافي تمت بموافقة ضمنية من جانب موسكو، فإن روسيا ما تزال تعد واحدة من الدول القليلة القادرة على جلب النظام إلى ليبيا. وكما هو معروف، فإن النظام جيد للأعمال التجارية.
تثير الحملات الروسية الجارية في سورية وأوكرانيا، بالإضافة إلى عدم الاستقرار في ناغورنو كاراباخ وأفغانستان، تثير المخاوف من الإفراط في التمدد العسكري لموسكو. وعلى الرغم من البناء المثير للإعجاب للقدرات في ظل تحت بوتين، فإن البلد ما يزال يفتقر كثيراً إلى الموارد تمكنه من المحافظة على العديد من الالتزامات العسكرية. فاقتصاد روسيا راكد، ومن المتوقع أن تتقلص موازنتها العسكرية في قادم السنوات.
لا شك في أن الدروس والإخفاقات التي أنتجتها الخطوات الأميركية المخطئة في الشرق الأوسط تظل حاضرة في أذهان صانعي السياسة الروس والقادة العسكريين. وكانت الحربان الأميركيتان المكلفتان في العراق وأفغانستان قد خلقتا أزمة سياسية في هذين البلدين، والتي ما تزال مستمرة حتى يومنا هذا. ولعل آخر شيء يريده بوتين هو إثارة نقاش محلي مليء بالأحقاد حول السياسة الخارجية، لكن ذلك ربما يكون هو ما سيحصل عليه غاصت روسيا عميقاً أكثر من اللازم في المستنقع الليبي.
ديميتري فرولوفسكي
صحيفة الغد