أما الضحية الثالثة للعملية الإرهابية فهو المواطن الأميركي كورت كوخران، الذي كان في زيارة إلى العاصمة البريطانية مع زوجته للاحتفال بالذكرى الـ25 لزواجهما. جرحى هذا الهجوم كانوا 29 شخصاً، منهم 12 بريطانياً وثلاثة مراهقين فرنسيين ورومانيان وأربعة كوريين جنوبيين وألماني وبولندي وإيرلندي وصيني وإيطالي وأميركي ويونانيان.
حرصتُ على هذا التفصيل في جنسيات الضحايا، للدلالة على وحشية الجريمة الإرهابية التي ليس لها دين، ولا تستهدف ديناً بعينه، بل هي تستهدف الإنسان، بما هو إنسان.
عملية لندن، من حيث المدينة التي استهدفتها، ومن حيث المكان الذي استهدفته في هذه المدينة، تحمل رمزية عميقة، إذ تمثل لندن إحدى أهم المدن في العالم، إن لم تكن أهمها، التي تجسّد التنوع البشري في أبهى مظاهره، والاحتفاء بهذا التنوّع، واحترام خصوصيات الأجناس والأعراق والديانات التي تسكن هذه المدينة المفتوحة. لندن التي تمثل نموذجا للتقاليد الأنجلوساكسونية في القبول بالتعدد الثقافي، وهذه التشكيلة من الضحايا بين سياح قادمين من
أنحاء العالم ومقيمين من مختلف الديانات والأعراق، بمن فيهم الإرهابي، مرتكب الجريمة الذي ينحدر من أصول غير إنكليزية، تقوم دليلاً على أن من يستهدف هذه المدينة إنما يستهدف قيم التعايش والتنوع والتعدّد وقيم الحرية التي يتمتع بها سكان هذه المدينة، حيث تعتبر بريطانيا آخر دول العالم التي لا يحمل سكانها بطاقات هوية، ولا يوقِف رجال الأمن مواطنيها لتفقّد هوياتهم بشكل اعتباطي، وهي المدينة الوحيدة التي لا يحمل فيها رجال الشرطة المدينون (المتروبوليتان) أسلحة.
مكان الجريمة أيضاً يحمل دلالة لا تخطئها العين؛ إذ يؤوي البرلمان البريطاني أعرق الديموقراطيات في العالم وأكثرها استقراراً، ونموذج الحكم البرلماني الذي يمنح الشعب البريطاني، من خلال غرفتيه، واحدة من أرشد أنظمة الحكم في العالم، وأكثرها ديموقراطية.
لندن أيضاً هي المدينة التي تحترم سلطاتها أنظمةً وأنماط عيش كل الأقليات، وتحتفي مدارسها بأعيادهم، ويجد كل صاحب ديانة ما يناسب دينه من أماكن عبادة ومحلات أكل ولباس، ناهيك عن أنه بالنسبة للمسلمين لا يخلو حي من أحيائها من مسجد، بما يشبه أي مدينة مسلمة في العالم. ويتمتع فيها المسلمون بكامل الحرية في إقامة احتفالاتهم وعباداتهم. ولعل انتخاب أحد المسلمين عمدة للمدينة، وهو أحد أهم المواقع السياسية في البلاد، في آخر انتخابات، يمثل مؤشراً لكل هذه القيم مجتمعة.
يجتمع المتطرفون، من مختلف الاتجاهات، على الهجوم على لندن، بسبب هذه الصفات التي ذكرنا، ولعل أكثر هذه الفئات غباء هي بعض أصوليي الحداثة من العرب الذين أظهروا الشماتة في هذه المدينة، متهمين سلطاتها بتوفير ملجأ آمن لأعداد من اللاجئين الإسلاميين الهاربين من ديكتاتوريات العالم الثالث، في خلط متعمّد بين المناضلين سلميا من أجل الحرية وجنود الإرهاب الذي ليس له جنسية ولا دين إلا تدمير القيم والرموز الحضارية، وليس أشد تكذيباً لادعاءاتهم من الإرهابي الذي قام بالعملية الأخيرة؛ إذ هو من مواليد بريطانيا، وُلد مسيحياً ويعاني من اضطرابات سلوكية ونفسية أدت إلى إدمانه المخدرات والممارسات الجنسية المرَضية، وإلى خلط واضطراب في توجهاته الدينية.
إظهار هؤلاء للشماتة والارتياح لما أصاب هذه المدينة التي تجسد أعلى ما وصله البشر من تمدن وتحضّر، هو تجسيد للالتقاء المتطرفين من كل الاتجاهات، بما يفرض التقاء كل دعاة الحرية وإعلاء القيم الإنسانية مهما كانت ميولهم ودياناتهم واختياراتهم الشخصية لمواجهة الوحشية والتطرف والإرهاب.