مقاربتان متضادتان
لا يفتقر التياران الأيديولوجي والبراغماتي إلى “الحجج”، في محاولة فرض رؤيتهما على مقاربة الأمن القومي الأميركي. وسنعرض لهاتين المقاربتين بإيجاز.
1.المقاربة الأيديولوجية
يتزعم هذه المقاربة مستشارو ترامب الثلاثة الأكثر تطرّفًا؛ وهم ستيف بانون، وستيفن ميلر، وسيباستيان غوركا. وقد عمل كلٌ من بانون وغوركا في صحيفة برايتبارت التي كان بانون رئيس تحريرها قبل تعيينه مطلع هذا العام كبير مستشاري ترامب في البيت الأبيض. وتُعرف هذه الصحيفة بتبنّيها أجندة يمينية عنصرية متطرّفة. ويمثّل هؤلاء الثلاثة أعمدة “مجموعة المبادرات الإستراتيجية” التي تُعدّ بمنزلة مركز تحليل سياسي داخلي في البيت الأبيض برئاسة بانون الذي عيّنه ترامب في مجلس الأمن القومي الأميركي، في سابقةٍ غير مألوفة؛ إذ لا ينبغي تسييس هذا المجلس، فضلًا عن أنّ بانون يفتقر إلى الخبرة في مسائل الأمن القومي.
ويقدَّم المستشارون الثلاثة بوصفهم خبراء داخل إدارة ترامب، على الرغم من افتقارهم إلى خبرات أكاديمية أو علمية في الدراسات الإسلامية، وحتى في السياسة الخارجية؛ من ذلك مثلًا أنّ غوركا يزعم أنّه خبير في الشؤون الإسلامية، إلا أنّ زملاءه في عمله الأكاديمي يرون غير ذلك. وكان هؤلاء الثلاثة يستندون، في رؤيتهم، إلى دعم مستشار الأمن القومي المُقال، فلين، الذي كان يرى في الإسلام “سرطانًا في جسد مليار وسبع مئة مليون إنسان”، وأنّه “أيديولوجيا سياسية .. تتلبس بلبوس الدين”.
عدّت صحيفة نيويورك تايمز بانون الرئيس الفعلي للولايات المتحدة بسبب تأثيره الشديد في
ترامب. ويرى بانون أنّ الولايات المتحدة منخرطةٌ في صراع وحشي ودموي مع “بربرية جديدة” لها جذورها في “الإسلام الراديكالي”، وبحسب رأيه، فإنّه “لا مناص من صراع وجودي يلوح في الأفق بين الإسلام والغرب”. ويستلهم بانون كثيرًا من رؤاه من أطروحة الأستاذ الجامعي الراحل، صموئيل هنتنغتون “صراع الحضارات” التي يجادل فيها بأنّ العالم مقسّم على أساس “خطوط صدع” ثقافية، ربما تقود إلى صدام بين الحضارة الإسلامية والغرب. في السياق نفسه، فإنّ غوركا الذي لا يتكلم اللغة العربية، ولم يسبق له أن عاش في دولة ذات أغلبية مسلمة، يزعم أنّ القرآن الكريم هو نفسه مصدر “الإرهاب الإسلامي” الأساس.
لا تنحصر مشكلة تيار الأيديولوجيين في رفض مقاربة إدارة الرئيس السابق، باراك أوباما، لهوية العدو التي كانت تصفه بـ “التطرّف العنيف”، بل إنّه يرفض أيضًا مقاربة الرئيس الجمهوري الأسبق جورج بوش الابن الذي أعلن “الحرب العالمية على الإرهاب”، والذي كان يقول إنّ “الإسلام دين سلام”. ويجادل هذا التيار بأنّه لا يمكن محاربة العدو من دون تحديد هويته بدقّة. ويبدو أنّ قرار ترامب حظر دخول رعايا سبع دول بأغلبية سكانية مسلمة، إنّما كان بفعل تأثير هذه المجموعة من المستشارين وغيرهم، من الدائرة الأوسع من أمثال وليد فارس وفرانك غافني. ومن المؤكد أيضًا أنّ مفردات ترامب، خلال حملته الرئاسية الانتخابية، وإلى الآن، عن تحديد هوية العدو في “الإرهاب الإسلامي المتطرّف”، إنما هي نتيجة مباشرة لتأثير المجموعة ذاتها.
2. المقاربة البراغماتية
في مقابل المقاربة الأيديولوجية، ثمة مقاربة المختصين والخبراء والمهنيين في حقول الأمن والدفاع والسياسة الخارجية. ويبدو أنّ ماكماستر يعبّر عنهم في إدارة ترامب. ينطلق هؤلاء في رؤيتهم للإسلام من زاوية المنفعة وتحقيق أفضل مردود في التصدي لـ “الإرهاب”؛ فبحسب مصادر داخل مجلس الأمن القومي، اجتمع ماكماستر، بعد تولّيه منصبه مباشرة، بفريق مكتبه وأخبره أنّ تعبير “الإرهاب الإسلامي المتطرّف” تسمية غير مفيدة، ذلك أنّ الجماعات المتطرفة، كتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) “غير إسلامية”، بل هي انحرافٌ عن الإسلام، ووصف أعضاء تلك الجماعات بصفات مثل “مجرمين”.
ويرى أنصار هذه المقاربة، من زاوية براغماتية بحتة، أنّه لا يمكن تأمين تحالف إسلامي واسع لهزيمة الجماعات المتطرّفة إن كانت هوية العدو غير معرّفة بدقة، وتعطي انطباعًا بأنّها
متطابقة مع الإسلام. وكانت إدارة أوباما قد تبنّت المنطق نفسه لتدحض ادعاءات المنظمات العنيفة بأنّ المعركة بينها وبين الولايات المتحدة معركة دينية. ويؤيد الرئيس الأسبق، جورج بوش الابن، هذه المقاربة؛ ففي مقابلة له على قناة “إن بي سي نيوز” الإخبارية، في السابع والعشرين من فبراير/ شباط الماضي، قال إنّ التهديد الإرهابي ليس حربًا دينيةً، وإنما أيديولوجية. وأضاف: “أعتقد أنّه من المهم لنا جميعًا أن ندرك أنّ واحدة من أهم نقاط قوّتنا هي قدرة الناس على العبادة بالطريقة التي يريدونها، أو حتى ألّا يتعبدوا أصلًا”.
ويعزّز ماكماستر المقدمات السابقة التي يؤسس عليها مقاربته بخبرته العملية، بوصفه قائدًا سابقًا للقوات الأميركية في العراق عامَي 2005-2006. فهو يؤمن أنّ دوافع الإرهاب الرئيسة متجذّرة في الإقصاء والتهميش والمظالم الطائفية والعرقية وسوء الحكم والإدارة. ونُقل عنه تعليماته للقوات الأميركية التي كانت تحت إمرته في العراق، “في كل مرة تزدري عراقيًا فإنّك تعمل لمصلحة العدو”.
أيّ الكفتين أرجح في إدارة ترامب؟
لم يتردّد ترامب في إعلان انحيازه إلى المقاربة الأيديولوجية التي يمثّلها بانون وفريقه، منذ أن كان مرشحًا، بل إنّه عاب على أوباما ومنافسته الديمقراطية، هيلاري كلينتون، رفضهما استخدام تعبير “الإرهاب الإسلامي المتطرّف”. وخلال حفل تنصيبه في العشرين من يناير/ كانون الثاني الماضي، كان ترامب قد تعهّد باستئصال “الإسلام الإرهابي المتطرّف من وجه الأرض”.
توقّع كثيرون أنّ إقالة فلين ومجيء ماكماستر سيعزّزان رأي تيار المقاربة البراغماتية. لكن، لم يحصل ذلك؛ فبعد يوم من التصريحات التي نُقلت عن ماكماستر في اجتماعه بموظفي مجلس الأمن القومي، ألقى ترامب خطابًا أمام “مؤتمر العمل السياسي المحافظ” في واشنطن العاصمة يوم 24 فبراير/ شباط 2017، استخدم فيه تعبير “الإرهابيين الإسلاميين المتطرّفين”. وقال “اسمحوا لي أن أقول التالي، بأوضح ما يمكن، إنّنا سنبقي الإرهابيين الإسلاميين المتطرفين خارج بلادنا”. وأضاف “لن يردعنا شيء عن ذلك”. وقد رأى عدد من المراقبين في توصيف ترامب العدوّ على هذا النحو توبيخًا لماكماستر.
غير أنّ انحياز ترامب إلى المقاربة الأيديولوجية اتضح أكثر في أول خطاب له أمام الكونغرس
الأميركي، بتاريخ 28 فبراير/ شباط 2017، وذلك عندما تعهّد باتخاذ تدابير حمائية ضد “الإرهاب الإسلامي المتطرّف”. وخلال حديث ترامب، كان غوركا يغرّد على “تويتر” “الإرهاب الإسلامي المتطرّف! أيّ أسئلة؟”، في إشارةٍ فُهم منها انتصار مقاربة تيار الأيديولوجيين في الإدارة على حساب البراغماتيين. وقد أكد نائب الرئيس، مايك بنس، هذا المعطى في مقابلة تلفزيونية بعد خطاب ترامب، بقوله إنّ الجميع داخل الإدارة “يؤيد تأييدًا كاملًا” استخدام ترامب عبارة “الإرهاب الإسلامي المتطرف”.
خلاصة
يبدو أنّ الرئيس ترامب، حتى الآن، لا يعير حسابات البراغماتيين و”المؤسسة” التقليدية الحاكمة في مقارباتها الأمنية والدفاعية والخارجية والداخلية، أيّ اهتمام. ويمكن القول إنّ تهميش أصوات الخبراء والمختصين في إدارته هو واحدٌ من أهم الأسباب التي تقودها من أزمة إلى أخرى؛ كما في قرار حظر دخول مواطني سبع دول ذات أغلبية سكانية مسلمة، وهو القرار الذي عطّله القضاء لاحتمالية وجود مخالفات دستورية فيه، غير أنّ ذلك لا يعني أنّ ترامب، على الأقل خلال هذه المرحلة، في وارد التراجع عن أجندة الأيديولوجيين المحيطين به، فبحسب تقارير من داخل البيت الأبيض، تحظى شخصيتان أيديولوجيتان، كبانون وميلر، بحق الدخول التلقائي إلى المكتب الرئاسي البيضاوي، في حين لا يتمتع مستشاره للأمن القومي، ماكماستر، بالميزة ذاتها. لذلك، ينبغي توقّع مزيد من الفوضى من رئيسٍ غير عادي وصل إلى الرئاسة محمولًا، جزئيًا، على جناحَي تيارين؛ شعبوي وأيديولوجي.