منذ تشكيل قوة التحالف العربي لاستعادة الشرعيَّة في اليمن دخل مجلس التعاون لدول الخليج العربية مرحلة جديدة من مسيرته التاريخية تجسّدت في ثلاثة أبعاد. يتمثل أول هذه الأبعاد في ظهور القوة العسكرية الخليجية من منطلق الفعل، والكشف من خلال ذلك على أهمية استراتيجية تكديس السلاح لسنوات. فقد عمَّر التشكيك، خاصة على المستوى الإعلامي خلال عقود، في أن دول الخليج تنفق أموالا طائلة على شراء الأسلحة دون أن تستفيد منها وأن الهدف من ذلك هو إرضاء الغرب سواء بتحقيق التحالف مع الدول الكبرى أو من خلال تشغيل مصانع السلاح وبالتالي المساهمة في حل أزمة البطالة للدول الصناعية من جهة وتحقيق المزيد من الأرباح لشركات صناعة السلاح العالمية من جهة ثانية.
لكن الوقائع الميدانية كشفت عكس هذا التوجه خصوصا بالنسبة إلى القوتين العسكريتين السعودية والإماراتية، وأن ما تقومان به يمثل استراتيجية جديدة في العمل العسكري يمكن أن تعتبر حلا للجيوش العربية في وضعيتها الراهنة، إما لكثرتها في بعض الدول دون وجود موارد اقتصادية وإما لقلتها في دول أخرى مع تسليح عال.
دول الخليج تتفوق على الكثير من دول العالم لجهة تطبيقات القوة الناعمة بل إنها تحدت نفسها في بعض الحالات
وذهبت صحيفة “ذي إيكونوميست” البريطانية إلى “أن الحل في تقدم الجيوش العربية (التي لم تخض غمار المعارك منذ 1973 باستثناء حرب الخليج) هو السير على النهج الإماراتي والأردني: عدد جنود أقل وإنفاق أقل على المعدات العسكرية التي قد تكون حديثة وباهظة الثمن لكنها ذات كفاءة بسيطة، والتركيز بدلا من ذلك على إمكانات عسكرية متطورة أكبر مع تقليل عدد الجنود”، وتلك الاستراتجية أثبتت جدواها عمليا على الأرض خلال السنتين الماضيتين.
سلطة القرار
يأتي البعد الثاني في شكل القدرة على اتخاذ قرار الحرب بعيدا عن سلطة أو تدخل الآخرين، فعلى طول الفترات السابقة من تاريخ المنطقة، خاصة في الحرب العراقية ـ الإيرانية أو حرب الخليج الثانية، كانت دول الخليج مجبرة على الدعم في الأولى والمشاركة بشكل مباشر في الثانية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى أحداث البحرين حين قامت بحماية الدولة من انهيار الجبهة الداخلية حين تحولت المطالب السلمية إلى أعمال عنف. أما في حرب اليمن فقد تمكنت من اتخاذ قرار الحرب بمعزل عن الحسابات الدولية أو انتظار مواقف الآخرين.
ويتمثل ثالث الأبعاد في أن القوات المشاركة في قوات التحالف تظل تحت قيادة عسكرية خليجية ممثلة في المملكة العربية السعودية، وهذا تطور جديد في العمل العسكري من ناحية القيادة. وبالتالي حرية اتخاذ القرار وتوقع نتائجه وتبعاته، وهذا على عكس الحروب السابقة المحلية (تحرير حرب الكويت) أو العربية (حرب السادس من أكتوبر)، حيث كانت في الأولى شريكا في اتخاذ القرار لكنها ليست هي من يتخذه بشكل مباشر وفي الثانية أوكلت لها مهام الضغط الاقتصادي وتمويل الحرب ولم تكن حاضرة بشكل مباشر على مستوى القرار العسكري.
الحل في تقدم الجيوش العربية (التي لم تخض غمار المعارك منذ 1973 باستثناء حرب الخليج) هو السير على النهج الإماراتي والأردني
وتحلينا الأبعاد الثلاثة السابقة إلى السؤال التالي هل بدخول الدول الخليجية العربية مرحلة العمل العسكري تكون قد تخلَّت عن قوتها الناعمة أو رجَّحت الكفَّة لصالح الأولى على حساب الثانية؟
إذا النظرة إلى الأمر من زاوية الوقائع، بغض النظر عن الموقف من الحرب الدائرة الآن، تحيلنا إلى أن القوة العسكرية التي ظهرت بها دول الخليج العربي تأتي مدعّمة لقوتها الناعمة بل إنها تبدو ضرورية من ناحية ظهورها الآن حتى تزيل الغشاوة عن أعين الذين يعتقدون أن الوجه الحضاري والثقافي في العمل الخليجي هو دليل عن حالة من الضعف أو العجز عن المواجهة أو هو احتماء بقوة الآخرين، بل إن ظهور القوة العسكرية في العمق الخليجي يعد تعبيرا عن الرفض للاختراقات الواقعة في الدول العربية الأخرى التي لم تستطع أن تحول دون حدوثها بما في ذلك الخروقات الثقافية والمذهبية التي تحارب العرب في بعدهم الوجودي وفي موقعهم الجغرافي بل وفي تاريخهم الديني.
تصدير الإيجابية
تواصل الدول الخليجية تجسيد قوتها الناعمة التي تراكمت منذ عقود، أي منذ أن انطلقت العملية الثقافية والمعرفية من الكويت، وعمَّت المنطقة كلها بما في ذلك الدول العربية الكبيرة ذات العمق الثقافي مشرقا وبدرجة أقل مغربا. وهي مستمرة إلى الآن ونراها في كل فترة سابقة عن زمانها وعن محيطها أيضا سواء عبر إحياء التراث وتصحيح مسار المعرفة من خلال التعليم أو من خلال الدخول في نقاش وجذب ثقافة الآخرين وتقنياتهم ووسائلهم وأدواتهم. وصحيح أن بعض الاهتمامات الثقافية، خاصة في مجالات الإعلام، لا ترقى إلى مستوى القضايا الكبرى وأحيانا تقدم متعة تقلل من دور جمالية القيم ولكنها تظل في النهاية نتاج أمة بالكامل وليست صناعة خليجية فقط.
وعمليا، تفوقت دول الخليج على الكثير من دول العالم لجهة تطبيقات القوة الناعمة بل إنها تحدَّت نفسها في بعض الحالات، سواء من ناحية الإعداد الجيد أو من ناحية قيمة الجوائز التي تمنح أو حتى صناعة نجوم جدد على الساحة أو حتى في بُعْدها الخاص بصناعة المستقبل، وبذلك حقَّقت نجاحا باهرا ساعد الإنسان العربي في التباهي بانتمائه الثقافي، وهي اليوم تمد جسورا نحو العالم من خلال طرح جوائز ومسابقات تُشجِّع على المعرفة وتسهم في إيجاد شراكة على المستوى العالمي، وتلك حرب أخرى تشنُّها بالوسائل السلمية لجهة التأكيد على سلامة حضارتنا بل إنها تعمل على تصدير أفكار إيجابية للعالم.
دول الخليج تفوقت على الكثير من دول العالم لجهة تطبيقات القوة الناعمة بل إنها تحدَّت نفسها في بعض الحالات، سواء من ناحية الإعداد الجيد أو من ناحية قيمة الجوائز التي تمنح
ويمكن الإقرار إذن، على خلفية الحقائق والوقائع سابقة الذكر، بأن القوة الناعمة لدول الخليج العربي جعلت منها بيئة جاذبة وهو مؤشر يشي بتغير في النظرة المستقبلية للمنطقة حيث لن تكون محصورة في نشاطها ومنجزاتها على مسألة التعمير السابق، وهو ما تحققه فعلا العمالة الوافدة أو الأموال المستقرة أو العابرة، وإنما سيشمل هجرة الثقافة في مرحلة أولى على النحو الذي نراه اليوم ثم استقرار وإنجاز معرفي، وبالتأكيد سيتبع هذا بنوع من الانتقاء ولكن البقاء في هذه المنطقة سيكون لمن يقدم إسهاما معرفيا أو يشارك في صنع الحضارة والالتزام بقيمها.
القوة الناعمة لدول الخليج، مجتمعة أو منفردة، تشكل كل مجالات الحياة، الثقافة والفنون والفكر إضافة إلى الاقتصاد، ويتحقق هذا كله برؤية استراتيجية وليست تكتيكا متغيرا، وما نراه من نقائص لجهة تقديم المنتج المحلي والعربي والعالمي يمثل البداية التي سيتم تجاوزها.
لكن مما لا شك فيه أن القوة الناعمة الخليجية بما فيها تلك المتعلقة بالأعمال الخيرية كانت أسرع من مثيلاتها في الدول الأخرى حتى المتقدمة منها وأكثر عطاء وثباتا في الزمن ولم يؤثر فيها تغيّر الأحداث، وبالتأكيد لن يجعلها الوجه العسكري تتراجع.
خالد عمر بن فقة
صحيفة العرب اللندنية