اكتسبت مبادرات المصالحة المذهبية زخمًا متصاعدًا على امتداد الإقليم في الآونة الأخيرة، لاحتواء وتسوية الصراعات الطائفية التي باتت تهدد دولا عديدة، إذ اتجهت أطراف إقليمية متعددة إلى طرح مبادرات للتقريب والحوار بين المذاهب ورأب الصدع السني-الشيعي المتصاعد لمواجهة التمدد الإقليمي لتنظيم “داعش” وتزايد نشاط التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود والإخفاق في حسم الصراعات الأهلية الممتدة في سوريا والعراق واليمن وتعثر الحوارات الوطنية وضبابية جهود الوساطة الإقليمية والدولية.
خريطة الصراعات:
يرتبط عدم الاستقرار الداخلي في عدد من دول الإقليم بتصاعد حدة الصراعات المذهبية بين التكوينات المجتمعية في هذه الدول، بالنظر إلى هيمنة التناقضات العقائدية على العقل الجمعي للمنتمين للمذاهب المختلفة والنزوع المتصاعد لتسييس وعسكرة الانقسامات المذهبية في خضم الصراعات الأهلية الممتدة التي تعاني منها المجتمعات المنقسمة.
فعلى سبيل المثال، لم تنقضِ تداعيات الصدامات المذهبية في لبنان بين منطقة جبل محسن ذات الأغلبية العلوية وباب التبانة ذات الأغلبية السنية والتي تفجرت بسبب التدخل العسكري لـ”حزب الله” في الصراع الدائر في سوريا لدعم نظام الأسد على الرغم من إحكام قوات الأمن اللبنانية سيطرتها على الأوضاع الأمنية في طرابلس في مايو 2014. ففي 10 يناير 2015 تبنت “جبهة النصرة” تفجيرات انتحارية استهدفت منطقة جبل محسن وأسفرت عن سقوط عشرات الضحايا، وأشارت الجبهة إلى أن الهجوم يعد ردًا على هجوم سابق استهدف مسجدين للسنة في طرابلس، وتوازي ذلك مع إحكام الجبهة المتحالفة مع بعض التيارات السلفية اللبنانية سيطرتها على منطقة عرسال الحدودية عقب اختطافها لبعض جنود الجيش اللبناني منذ أغسطس 2014 في خضم الاحتقان المذهبي بين “حزب الله” والقوي السنية في لبنان.
الأمر ذاته ينطبق على سوريا، حيث تعد الانقسامات المذهبية بين قوي وفصائل المعارضة السنية ونظام الأسد المدعوم من جانب العلويين أحد أهم أبعاد الصراع الأهلي الممتد بين الطرفين خاصةً في ظل استناد نظام الأسد لدعم إيران و”حزب الله” كأحد أهم تجليات الاصطفافات المذهبية في خضم الصراعات الأهلية.
بينما يعد الصراع الأهلي الدائر في العراق أحد أهم نماذج الصراعات المذهبية في الإقليم، لا سيما في ضوء خبرة الحرب الأهلية العراقية التي بلغت ذروتها بين عامي 2005 و2007 وسيطرة تنظيم “داعش” على مناطق تمركز السنة في نينوي وصلاح الدين والرمادي، بينما يتمثل التطور الأكثر خطورة في عمليات التطهير المذهبي و”القتل على الهوية” والتهجير القسري التي تمارسها ميليشيات الحشد الشعبي الشيعية الداعمة للجيش العراقي بحق السنة والتي كان آخرها قتل حوالي 70 من المدنيين السنة في بروانة بمحافظة ديالي في منتصف يناير 2015 وهو ما دفع رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي لإجراء تحقيق في تلك الحوادث في 29 يناير 2015.
في المقابل تعززت الاصطفافات المذهبية في اليمن منذ تصاعد انتهاكات “الحوثيين” بحق السنة في منطقة دماج الواقعة في صعده التي يسيطر عليها تنظيم “أنصار الله” بقيادة عبد الملك الحوثي، بيد أن الصراعات المذهبية شهدت تصاعدًا عقب التوسعات العسكرية لـ”الحوثيين” انطلاقًا من صعده وتطويقهم التدريجي للعاصمة بالاستيلاء على محافظات عمران وزفار بعد هزيمة الكتيبة “310” التابعة للجيش وقتل قائدها وهزيمة الميلشيات القبلية التابعة لقبيلتي “حاشد” و”آل الأحمر” المرتبطين بحزب “التجمع اليمني للإصلاح” التابع لجماعة “الإخوان المسلمين”.
ولم يتوقف “الحوثيون” عن التوسع في أقاليم الدولة عقب السيطرة على العاصمة، ففي منتصف أكتوبر 2014 استولي “الحوثيون” على مدينة الحديدة التي تعتبر أكبر المدن اليمنية التي تطل على البحر الأحمر، وعلى مدينة رادع، وحاصروا منابع النفط في مأرب وحضرموت، وهو ما دفع مختلف القبائل والقوي السياسية السنية للتوحد في مأرب، حيث أصدرت أحزاب “اللقاء المشترك” وحزب “المؤتمر الشعبي العام” الذي كان يرأسه الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح بيانًا مشتركًا، في 12 يناير 2015، للتعبير عن توحدهم ودعمهم للقبائل في مأرب في مواجهة توسعات “الحوثيين”.
أنماط المصالحة :
أدي هذا الصعود المتواصل للأبعاد المذهبية في الصراعات الداخلية في الإقليم، إلى تزايد الاهتمام بمبادرات المصالحة المذهبية والتوفيق بين المذاهب، وقد تفاوتت مبادرات المصالحة المذهبية في أدواتها ودافعيتها والفاعلين القائمين بطرحها في إطار عدة أنماط يتمثل أهمها فيما يلي:
1- مبادرات الوساطة: تصدرت مبادرات مؤسسة الأزهر في مصر جهود الوساطة في بؤر الصراعات المذهبية في الآونة الأخيرة، فخلال زيارة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي للأزهر الشريف، في 12 يناير 2015، طرح الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر مبادرة لعقد مؤتمر للمرجعيات الشيعية في العراق وإيران والعلماء السنة للتوفيق بين المذاهب وتعزيز جهود المصالحة المذهبية في العراق، مبديًا استعداده لزيارة العراق للوساطة بين الفرقاء وإنهاء الخلافات المذهبية، ومؤكدًا على أن الصراعات الأهلية في سوريا والعراق واليمن هي صراعات سياسية وليست دينية.
والأمر ذاته ينطبق على لبنان، حيث توسط رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري، في 23 ديسمبر 2014، بين “حزب الله” و”تيار المستقبل” لتصفية الاحتقان المذهبي بين السنة والشيعة في لبنان، خاصة في المناطق الملاصقة للحدود السورية، وتوازي ذلك مع دعوة العلامة مهدي شريف العريضي رئيس المجلس المذهبي لطائفة “الموحدين الدروز”، في 15 ديسمبر 2014، لمؤسسة الأزهر في مصر للوساطة بين الفرقاء المذهبيين في لبنان والحد من الاحتقان المذهبي.
وفي السياق نفسه، أعلن المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق نيكولاي ملادينوف، في 19 يناير 2015، أن الأمم المتحدة مستعدة للوساطة بين الفرقاء في العراق لتحقيق المصالحة الوطنية وذلك خلال كلمته في “المؤتمر الوطني الثالث للأديان والمذاهب في العراق”، وهو ما يرتبط بتركيز ملادينوف على حضور مؤتمرات التوفيق المذهبي والطائفي في العراق، حيث شارك في مؤتمرات للحوار والمصالحة المذهبية في أربيل وبغداد وكربلاء في إطار سلسلة منتديات مع ممثلي المجتمع المدني والمواطنين وشيوخ العشائر ورجال الدين للتنسيق لعقد مؤتمر دولي للمصالحة في العراق برعاية الأمم المتحدة.
2- لقاءات المصالحة: تم إطلاق حوار بين “حزب الله” و”تيار المستقبل” في لبنان، في 23 ديسمبر 2015، يركز على التهدئة السنية- الشيعية وتخفيف الاحتقان المذهبي ومكافحة الإرهاب وفض الاشتباكات بين الفرقاء المذهبيين، ويستبعد تمامًا التطرق لكافة القضايا الخلافية خاصة مشاركة “حزب الله” في دعم نظام الأسد في خضم الحرب الأهلية السورية وقضية الفراغ الرئاسي الحاكمة للمشهد السياسي
في لبنان، وبالنظر إلى تمكن الجولة الأولي من تحقيق تهدئة مرحلية بين الطرفين تم عقد جولة ثانية للحوار لمواجهة الاشتباكات والاحتقان المذهبي في لبنان.
3- توافقات المرجعيات: تصاعدت وتيرة السعي لتحقيق التوافق بين المرجعيات والرموز الدينية بالنظر إلى تأثيرها في عموم المنتمين للمذاهب المختلفة، وهو ما يتضح في دعوة رئيس ديوان الوقف الشيعي العراقي السيد صالح الحديري لشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب لعقد لقاء مع المرجع الأعلى بالعراق علي السيستاني في النجف الأشرف للإصلاح بين طوائف المسلمين في مختلف أرجاء العالم الإسلامي والتصدي للتطرف والعنف. وتكاد تتشابه هذه الدعوة مع مبادرة مماثلة أطلقها رئيس “رابطة الحوزة العلمية بمدينة قم” في إيران محمد يزدي، في 26 يونيو 2013، لعقد حوار بين المرجعيات العليا في العالم الإسلامي للتوفيق بين المذاهب. ولا ينفصل ذلك عن مبادرات دمج الوقفين السني والشيعي في العراق في ديوان واحد للتقريب بين أتباع المذاهب، والتي تأكدت خلال لقاء رئيس ديوان الوقف الشيعي السيد صالح الحيدري مع لجنة الأوقاف البرلمانية التابعة لمجلس النواب برئاسة عبد العظيم العجمان في 28 يناير 2015.
4- مؤتمرات التوفيق: لم تنقطع مؤتمرات التوفيق بين المذاهب منذ إطلاق المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (ايسيسكو) لمشروع “استراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية” في عام 2001 وقرار منظمة التعاون الإسلامي في مكة، في عام 2005، برفض تكفير أصحاب المذاهب الجعفرية واليزيدية والإباضية والظاهرية والتأكيد على الحوار والتقريب بين مختلف المذاهب الإسلامية.
5- مراكز الحوار: جاءت دعوة العاهل السعودي الراحل الملك عبدالله بن عبد العزيز، في أغسطس 2012، لتأسيس مركز للحوار بين المذاهب، لتدعم الاتجاه نحو إنشاء عدة مراكز للحوار والتوفيق بين أتباع المذاهب المختلفة والتي تصدرها إنشاء مركز “الملك عبدالله العالمي للحوار بين أتباع الديانات والثقافات”، في فيينا في نوفمبر 2012، وتأسيس “المجلس الاستشاري الأعلى للتوفيق بين المذاهب” التابع لمنظمة التعاون الإسلامي، وفي هذا الصدد أعلن الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي إنشاء مركز للحوار بين المذاهب في مكة للتصدي للتطرف ونبذ أسباب الخلافات بين المذاهب الإسلامية وذلك خلال زيارة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي لمقر المنظمة في 15 يناير 2015.
6- التوعية الأكاديمية والمجتمعية: انطوت جهود التوفيق بين المذاهب على دعم أنشطة التوعية الأكاديمية والمجتمعية لتعزيز ثقافة الحوار وتقبل الآخر. ففي مصر أكد الدكتور عباس شومان وكيل الأزهر الشريف في تصريحات إعلامية، في 18 يناير 2015، على التركيز على التعددية الفكرية من خلال تدريس اثنين من المذاهب الشيعية بالأزهر. والأمر ذاته ينطبق على معهد “الدعوة للدراسات الإسلامية” في بيروت الذي يدرس مختلف المذاهب الإسلامية بما فيما المذاهب الشيعية الاثني عشرية والزيدية والإباضية والظاهرية بالإضافة لتأسيسه لبرنامج للتعاون مع جامعة المذاهب الإسلامية في إيران في أبريل 2014، وعلى مستوي جهود التوعية المجتمعية أطلقت مؤسسة الأزهر الشريف مبادرة “الأزهر يجمعنا” والتي تتضمن سلسلة من الندوات والحوارات الثقافية في مواجهة التطرف في 4000 مركز شباب على مستوي الجمهورية بالتعاون مع وزارة الشباب، وتضمنت المبادرة جهودًا للتأكيد على التوافق بين المذاهب وضرورة التعايش مع التعددية ونبذ العنف والتطرف.
معوقات الفاعلية:
لا يمكن اعتبار الزخم المتصاعد لمبادرات المصالحة المذهبية بمختلف أنماطها وآلياتها مؤشرًا كافيًا على إمكانية تحقيق التوافق المذهبي والتعايش بين الأديان في ظل وجود عدة معوقات تحد من فاعلية هذه الجهود، حيث تتسم أغلب مبادرات التقريب بين المذاهب بالنخبوية بالنظر إلى تركيزها على النخب الدينية والفكرية دون الامتداد لنطاقات أوسع تضم قيادات مجتمعية مؤثرة مع التركيز على الإعلام والمجتمع المدني وشبكات التواصل الاجتماعي لنشر ثقافة التعايش والتسامح واحترام الآخر.
ويرتبط ذلك بغياب التنسيق والتكامل بين مبادرات المصالحة المذهبية وافتقادها لمرتكزات تجمع بين الهيئات والمؤسسات الراعية لتلك المبادرات مما يؤدي لازدواجية الجهود وتضاربها وإهدار الموارد، كما تميل بعض هذه الأنشطة للطابع الاحتفالي الرمزي الذي يغلب عليه مفردات الخطاب الدبلوماسي دون التركيز على مواجهة الإشكاليات الرئيسية المسببة للخلافات بين المذاهب أو تطوير آليات لتحقيق التعايش بين المذاهب والتركيز على العوامل المشتركة.
وعلى الرغم من أهمية مبادرات الوساطة والتوفيق المذهبي، إلا أن بعضها يتجنب الإقرار بتعقيدات واقع الصراعات الأهلية وأنها تنتج عن تناقضات مصلحية وثقافية متجذرة في المجتمع ذات امتدادات في الوعي الجمعي للفرقاء المتصارعين ولا يمكن تسويتها من خلال مؤتمر للحوار أو مبادرة واحدة تجمع قيادات الطوائف وربما تتطلب التسوية فترة طويلة من جهود الوساطة والتوفيق المتواصلة وعملية انتقالية متوافق عليها من مختلف الأطراف تدعمها المنظمات الإقليمية والدولية وتضمن التزام الفرقاء بتعهداتهم.
إجمالاً يمكن القول إن جهود المصالحة المذهبية لا تزال تفتقد للفاعلية في التوفيق بين المذاهب واحتواء حدة الصراعات الأهلية على امتداد الإقليم بالنظر إلى هيمنة النخبوية والفردية والانفصال على أغلبها وإغفالها لتعقيدات واقع الصراعات الإقليمية، مما يجعل التفاعلات بين المذاهب أقرب لمعادلة صفرية محكومة بالصراع والانقسام بين أطرافها.
المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية