نحن في معركة، وأكثر من نصف هذه المعركة في ميدان الإعلام”، هذا ما كتبه أبو أيمن الظواهري،الرجل الثاني في تنظيم القاعدة حينها في عام 2005، لأبي مصعب الزرقاوي، الأردني الذي قاد العراق في ذلك الوقت.
في السنة السابقة، شبكة الزرقاوي، التي كانت تعرف بالتوحيد الجهاد، أطلقت للعامة أكثر من 10 مقاطع قطع رؤوس، بما فيها مقطع يعتقد أنه يظهر الزرقاوي نفسه وهو يقطع رأس رجل الأعمال الأمريكي نيكولاس بيرج. حذر الظواهري قائده الميداني المندفع بأن هذا كان خطأ في مساحة العلاقات العامة، وقد يسبب خطر التنفير من المسلمين.
قتل الزرقاوي في ضربة جوية في 2006، لكن الشكل العنيف الإلكتروني للجهاد الطائفي الذي أطلقه لا زال حيًا بشكل واضح في بنية داعش، الوريث المباشر للقاعدة في العراق. بينما لم يتبع التنظيم تمامًا نصيحة الظواهري بكسب القلوب والعقول؛ إلا أنه أثبت بشكل مذهل مهارة بتوظيف الإعلام الاجتماعي الجديد لإيصال رسالته.
وليس من المبالغة القول -بالرغم من أنه أصبح كليشة الآن- أن التنظيم من كونه أحد أكثر التنظيمات الإرهابية في العالم وحشية اليوم؛ إلا أنه يملك البروباجندا الأكثر مكرًا وذكاء. جناحها الإعلامي: الحياة، أطلق مئات المقاطع المتفاوتة من فيديوهات قطع الرؤوس ذات الثلاث دقائق إلى أفلام قصيرة تصل مدتها لساعة، وتجمع بصورة غير معقولة نمط الرحلات والوثائقي التاريخي والفظائع الأخرى. كثير منها إنتاجات عالية الجودة تتضمن تقنيات هوليوودية ومؤثرات خاصة.
أحد المقاطع، باسم صليل الصوارم الجزء الرابع، حصل على مدح خاص من الناقد الإعلامي في النيويورك تايمز ديفيد كار، قائلًا: “أي شخص يشكك بالقدرة التقنية لداعش قد يرغب برؤية وثائقي عن الفلوجة يتضمن لقطات مميزة صورت بكاميرات تحملها طائرات صغيرة”.
ويصدف أن تكون كلمات “الإعلام أكثر من نصف المعركة” هي شعار مركز اتصالات مكافحة الإرهاب الاستراتيجية، التابع للخارجية الأمريكية، الذي أسس عام 2010 كأول مركز ترعاه الحكومة بعيدًا عن وكالة استخباراتية لمكافحة الدعاية على الإنترنت. تظهر الجملة في كل العروض التقديمية التي يقدمها المركز، بحسب منسقه ألبرتو فيرناندز. بجانب هذا الاقتباس هناك اقتباس آخر، مأخوذ من المذكرات المزعومة للجهادي الأمريكي عمر حمامي، الذي كان حتى موته في 2013 قائدًا في مجموعة الشباب الصومالية الإسلامية المسلحة، قائلًا: “حرب السرديات أصبحت أكثر أهمية من حرب الجيوش والنابالم والسكاكين”.
وزيرة الخارجية حينها، هيلاري كلينتون، قالت شيئًا شبيهًا في وصف مهمة المركز بعد عام من إنشائه، بأنه من المهم لتقليل جاذبية الإرهاب، وركز عليه المركز، هو “تقويض دعاية الإرهاب وثني المجندين المحتملين”.
قال لي فيرناندز مرة ونحن نشرب القهوة، واصفًا ما رآه في محتوى جهود العلاقات العامة السابقة في وزارة الخارجية بعد 11/ 9: “ليس الأمر بخصوص لويس آرمسترونج أو جمال الجاز أو حب أمريكا للمسلمين. أنا لا أحب الاقتباس لوزيرة الخارجية؛ لأنها مملة، بل لأنها غبية. تركيزنا ليس على الرسالة الإيجابية. ما نفعله هو الرسائل المضادة. نحن الأشخاص في الحملة السياسية الذين نقوم بالدعاية السلبية. نحن نضعها في وجوه الناس”.
بالرغم من تشكيله متأخرًا؛ إلا أن المركز الآن في جبهة ما أسماه حمامي وفيرناندز “حرب السرديات”، وأنتج أكثر من 50 ألف “ارتباط” على الإنترنت بأربع لغات -العربية، الأوردو، الصومالية، والإنجليزية. الارتباط بحسب لغة الخارجية هو أي شيء من مئات مقاطع “الخلط” التي يجمعها الفريق من مقاطع سابقة -في الكثير من الحالات تكون مقاطع داعش نفسها- إلى تغريدات إلى صور تظهر نهب وكذب المقاتلين.
بالإضافة لذلك، فريق الوصول الإلكتروني التابع للمركز يداهم المنتديات الإلكترونية المتنوعة لاصطياد المتعاطفين مع داعش، كما أنه يدخل بانتظام إلى الهاشتاجات المؤيدة لداعش. على سبيل المثال، في نيسان/أبريل الماضي، أنشأ داعم لداعش وسمًا باسم “إنجازات_الدولة”. تقريبًا حال إنشائه، استخدم فريق الوصول الإلكتروني العربي الهاشتاج نفسه لبث سلسلة من المراجع الساخرة من “إنجازات داعش”، متنوعة من “تجويع الناس في حلب”، “تدمير المساجد في الرقة”، “صلب الشباب”، و”مداهمة ونهب وتدمير المنازل”. كل هذه الرسائل مرتبطة بفيديوهات تجرم داعش على اليوتيوب وتفصل جرائمها في سوريا.
حتى إن المركز دخل في حوار، إذا أمكن تسميته كذلك، مع جهاديين حقيقيين بمن فيهم حمامي، الذي قال فيرناندز إنهما “تبادلا الانتقادات” بالعربية على تويتر، قائلًا وهو يتذكر: “كان من الواضح أنه تورط، وأنا آسف عليه. لقد قتل على يد الشباب، لا الأمريكان. وفي الحقيقة نحن استخدمنا موته في واحد من مقاطعنا: انظر ماذا يحصل لك عند الانضمام لهؤلاء”.
ولكن، بعكس نظرائهم في النهاية العسكرية الصلبة في المعركة ضد داعش، الجنود المشاة الأمريكيون في حرب السرديات واقعون في سلبية معتبرة بالنسبة لنظرائهم الجهاديين.
داعش لديها مقاطع قطع رؤوس. المركز ليس لديه. مقاطع قطع الرؤوس صادمة وقبيحة، لكنها مذهلة بشكل غريب كذلك؛ ولذلك تنتشر فيروسيًا. مقاطع المركز، مع كثرتها، ليست صادمة وقبيحة، وتظل أقل إذهالًا؛ ولذلك لا تنتشر فيروسيًا لهذا السبب. صنيعة داعش هي الصدمة والدم، بينما صنيعة المركز أكثر وهمًا وقابلية للاحتمال. الصدمة والدم، دون الحاجة للقول، هي حيث يحصل التفاعل، وبالتالي يتجه جمهور الإنترنت. يقول فيرناندز معترفًا بهذه السلبية: “أنت لن تستطيع أبدًا أن توافق قوة جنونهم الوحشي”.
تملك داعش شبكة كبيرة من “الجماهير” الذين ينشرون دعاية الإعلام على الإنترنت؛ إذ إن داعميها الواقعيين معروفون بشكل كبير ومثير للسخرية. (تسمي داعش جماهيرها “فرسان الرفع”). هم مخلصون، مكتفون ذاتيًا، وحتى إنهم، كما يقول فيرناندز، ظريفون أحيانًا. وهم موجودون في كل مكان على تويتر، بالرغم من جهود الشبكة الإعلامية لحجبهم. وصف فيرناندز استخدام التنظيم للإعلام الاجتماعي بـ”ضربة من الذكاء لصالحهم”. لا يملك المركز جماهير.
وبشكل أكثر حسمًا، تملك داعش سردية. يتم وصف هذا عادة من قبل المعارضين للتنظيم بأنه “سطحي” و”مفلس”، إلا أنها ليست كذلك، فهي غنية وكثيفة. يقدر المركز الدولي لدراسة التطرف والعنف السياسي أعداد الجهاديين الأجانب بـ20 ألفًا ذهبوا للقتال في سوريا والعراق، 100 منهم تقريبًا من أمريكا.
هؤلاء المقاتلون قد يكونون سذجًا أو أغبياء، لكنهم لم يضحوا بكل شيء مقابل لا شيء. يقول جون هورجان، مدير مركز دراسات الأمن والإرهاب في جامعة ماساشوستس لويل، إن الأشخاص الذين ينضمون لتنظيمات مثل داعش “يحاولون إيجاد طريق، الإجابة على نداء لشيء ما، لتصحيح شيء يفترض أنه خاطئ، لفعل شيء ذي معنى حقيقي بحياتهم”.
لا يملك المركز سردية يمكن مقارنتها بأي حال بالتأثير العاطفي وصدى سردية داعش. لا أحد يعي ذلك بشكل حاد أكثر من فيرناندز نفسه، قائلًا: “رسالة داعش هي أن المسلمين يقتلون وأنهم الحل. هذا نداء للعنف، بوضوح، ولكنه نداء لأفضل ما في الناس، لطموحاتهم وأحلامهم وآمالهم، لأعمق ما فيهم من أشواق للهوية والإيمان والإدراك الذاتي. نحن لا نملك سردية مضادة لذلك.
ما نملكه هو نصف رسالة: لا تفعل هذا، ولكننا نفتقد ماذا تفعل بدلًا عنه. هذا ليس مثيرًا جدًا. السردية الإيجابية هي أكثر قوة، خصوصًا إن كانت تتضمن الارتداء الأسود مثل النينجا، وامتلاكك علمًا مميزًا، كونك على التلفاز، وقتالك لشعبك”.
في كتابه لسيرة الفيلسوف لودويج ويتجينستاين، يناقش راي مونك قرار ويتجينستاين بالتجنيد بالجيش النمساوي المجري في الحرب العالمية الأولى. لم يكن الأمر متعلقًا بالوطنية، كما يقول مونك؛ بل كان حاجة ويتجينستاين لـ”شعوره بأن مواجهة الموت ستحسنه بشكل أو بآخر. ما أراده ويتجينستاين من الحرب كان تحويلًا بشخصيته، خليطًا من التجربة الدينية التي قد تغير حياته دون رجعة”.
أحد التحديات الكبيرة في مكافحة الإرهاب اليوم، هو العمل لإنشاء سردية تتحدث مباشرة لنوع شبيه من هذا الحنين بين المقاتلين المحتملين، وتربط هذا الحنين بتوجه غير عنيف. كما يناقش سكوت أتران في كتابه “الحديث للعدو”، فإنه “على المدى الطويل، ربما أكثر إجراء مهم في مكافحة الإرهاب، هو توفير أبطال بديلين وآمال أكثر إغراء وقوة من أية دروس اعتدال أو عروض مادية أخرى”.
الأكثر إلحاحًا الآن، ولكن ليس أقل صعوبة، هو التحدي بتغيير الواقع على الأرض في سوريا والعراق، بحيث تصبح سردية داعش باضطهاد وقتل السنة على يد نظام الأسد والميليشيات الشيعية المدعومين من إيران أقل انتشارًا بين السنة.
إحدى المشاكل في مكافحة هذه السردية، هي أن بعضها يحصل فعلًا: المسلمون السنة يضطهدون في سوريا والعراق. هذه الحقيقة الواقعية القاسية، بقدر نجاح داعش على الأرض، والتضخيم البلاغي والنشر العالمي لهذا النجاح عبر دعاية داعش، تفسر نجاح داعش في تجنيد الكثير من المقاتلين الأجانب.
الظواهري كان على حق: نصف المعركة هو الإعلام. إلا أن النصف الآخر -الواقع على الأرض- هو الأكثر أهمية في المعادلة. وطالما بقي الواقع يدعم سردية داعش، فإن رسالتها ستظل تجتذب السنة الساخطين داخل وخارج العالم الإسلامي. هذا لم يغب عن فيرناندز “القول بأن داعش سيئة ليس جيدًا بما فيه الكفاية. يجب التغيير على الأرض. يمكن للرسائل أن تشكل وتظلل، ولكنها لا تستطيع تغيير الأسود لأبيض”.
التقرير