لى الرغم من تعثر الاقتصاد الإيراني على إثر ارتفاع سقف العقوبات وانخفاض الأسعار العالمية للنفط قُبيل نهاية عام 2014؛ لم تنقطع مساعي إيران لتعزيز حضورها الاقتصادي في المنطقة العربية من خلال الحفاظ على تدفق مستدامٍ ومتزايد للاستثمارات في عددٍ من الدول العربية، وتأسيس علاقات وطيدة للشراكة والتعاون الاقتصادي مع المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص وقطاعات الأعمال في تلك الدول، وهو ما أثار جدلا متصاعدًا حول تداعيات الاستثمارات الإيرانية، ومدى ارتباطها بمحاولات الاختراق الثقافي، واستغلال الانتماء المذهبي للأقليات الشيعية في بعض الدول العربية لتحقيق المصالح الإيرانية، وتهديد التماسك المجتمعي، وتقويض الاستقرار السياسي في هذه الدول.
التغلغل الاقتصادي:
يُعد تعزيزُ الحضور الاقتصادي لإيران إقليميًّا أحد أهم ثوابت السياسة الإيرانية، خاصةً في ظل عدم استقرار علاقات إيران مع الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، ومواجهة النظام الإيراني لموجات متتابعة من العقوبات الاقتصادية الدولية، بيد أن التركيز الإيراني على الاستثمار الخارجي يتجاوز مجرد إيجاد مساحات بديلة للتعاون الاقتصادي لتحييد آثار العقوبات الدولية ليشمل غايات سياسية في إطار سياسة ذات مسارين: يرتكز أولهما على شراء الأصول في الدول التي تحتوي على تكوينات شيعية تتصدر المشهد السياسي وخاصة العراق واليمن وسوريا. ويتمثل ثانيهما في تعزيز التعاون الاقتصادي مع بعض الدول العربية مثل السودان والجزائر وموريتانيا.
فعلى المستوى الأول، باتت إيرانُ تُركز على الاستحواذ على الأصول الاقتصادية في مناطق تركز الشيعة في المنطقة العربية؛ حيث أشار رئيسُ الغرفة التجارية الإيرانية-العراقية المشتركة يحيى آل إسحاق، في منتصف يناير 2015، إلى أن الاستثمارات الإيرانية في العراق بلغت 12 مليار دولار، وأن هناك أربعة بنوك مشتركة بين الدولتين لتعزيز التدفقات المالية، فضلا عن قيام الشركات الإيرانية ببناء 4 ملايين وحدة سكنية في العراق، وتقديم خدمات هندسية بقيمة 5 مليارات دولار للعراق، إلى جانب إقامة معرض ضخم لشركات الطاقة والمياه والصناعة والمنتجات الغذائية في العراق. وفي السياق ذاته، أشار سنجاني شيرازي الأمين العام للغرفة الإيرانية- العراقية المشتركة، إلى أن إيران تسعى للاستحواذ على الحصة الأكبر من الاستثمارات الأجنبية في العراق، والتي يتوقع أن يصل إجماليها إلى حوالي 1500 مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة، تتجاوز حصة إيران منها حوالي 17.5%.
كما شهدت اليمن، في مطلع يناير 2015، تحركات كثيفة من جانب السفير الإيراني في اليمن حسين نكنام لتهيئة السياق لتدفق الاستثمارات الإيرانية في ظل سيطرة الحوثيين على العاصمة صنعاء؛ حيث زار السفير الإيراني ميناء عدن، والتقى محافظَ المدينة عبدالعزيز بن حبتور، مؤكدًا استعداد الشركات الإيرانية لزيادة استثماراتها في اليمن، وإنشاء محطات لتوليد الكهرباء، ومصانع للأسمنت، ومعامل للأدوية، فضلا عن التوسع في قبول الدارسين اليمنيين في الجامعات الإيرانية، وهو ما فسره مراقبون بسعي إيران للسيطرة على خليج عدن ومضيق باب المندب عبر التغلغل في الاقتصاد اليمني.
وفي السياق ذاته، لم تكن المساعدات الاقتصادية الإيرانية لنظام الأسد بمعزل عن السعي الإيراني للسيطرة على الاقتصاد السوري، ففي 3 يناير 2015، أعلن وزيرُ الاقتصاد والمالية الإيراني علي طيب نيا عن سعي إيران لتوسيع نطاق استثماراتها في سوريا في قطاعات النفط والأسمنت والزراعة والنقل وإعادة الإعمار، وتوازى ذلك مع تقارير حول حركة شراء واسعة لمستثمرين إيرانيين للعقارات والفنادق بالعاصمة دمشق ومناطق تمركز العلويين، في محاولة لاستغلال التسهيلات المالية التي يمنحها نظام الأسد في تعزيز تواجدها الاقتصادي في سوريا، ودعم ملكيتها للأصول في سوريا، وهو ما يرتبط باتفاق عقده نظام الأسد مع الحكومة الإيرانية، في مايو 2013، يقضي بالحصول على تسهيلات ائتمانية بقيمة 3.6 مليارات دولار لشراء منتجات نفطية، مقابل استحواذ إيران على استثمارات وأصول داخل سوريا، وهو ما أكد سعي إيران لتثبيت اختراقها للاقتصاد السوري لمواجهة أي احتمالات لسقوط نظام الأسد، وتدعيم بقاء الطائفة العلوية ماليًّا واقتصاديًّا بغض النظر عن التحولات السياسية.
أهداف استراتيجية:
يتمثل المسار الثاني لسياسة الاستثمار الإيرانية في اختراق اقتصادات الدول العربية ذات الموقع الحيوي الجيواستراتيجي مثل السودان والجزائر وموريتانيا، فعلى الرغم من توتر العلاقات الإيرانية- السودانية عقب إغلاق نظام البشير مكاتب التمثيل الثقافي الإيراني في السودان، في سبتمبر 2014، بدعوى نشرها التشيع، فإن العلاقات الاقتصادية بين الطرفين لا تزال قائمة في ظل دور الشركات الإيرانية في التنقيب عن النفط في السودان، وسريان اتفاقيات للاستثمار المشترك تُقدر بحوالي 400 مليون دولار، ولا ينفصل ذلك عن تأكيدات مصادر متعددة بسعي إيران لتأسيس قاعدة بحرية غرب ميناء بورتسودان على البحر الأحمر لاستخدامها في نقل الأسلحة الثقيلة لسوريا و”حزب الله” اللبناني وحركة “حماس” الفلسطينية؛ حيث اختارت إيران الميناء بسبب موقعه الاستراتيجي المطل على البحر الأحمر، وهو ما استدلت عليه المصادر بتكرار رسو سفن البحرية الإيرانية بميناء بورتسودان.
على مستوى آخر، جاء تأكيد الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة، في 11 فبراير 2015، على ضرورة تعزيز العلاقات بين الجزائر وإيران في رسالة لنظيره الإيراني حسن روحاني، ليدل على المسار الصاعد للعلاقات منذ طي صفحة القطيعة الدبلوماسية في عام 2001، فخلال هذه الفترة تكررت الزيارات الرسمية التي قام بها بوتفليقة لطهران، وكانت الجزائر أولى الدول العربية التي تسعى فيها مجموعة “خودرو” الإيرانية للسيارات لتسويق منتجاتها، فضلا عن الاستثمارات المشتركة في مجالات الطاقة والبنية التحتية والخدمات. أما موريتانيا فتسعى إيران لتعزيز استثماراتها في قطاعات الصيد البحري والتعدين من خلال اتفاقيات مشتركة.
تداعيات الاختراق:
لا يُمكن اعتبار الاستثمارات الإيرانية المتصاعدة في المنطقة العربية سوى أداة من أدوات السياسة الإيرانية الساعية للهيمنة وتعزيز المكانة السياسية الإقليمية. وفي هذا الصدد، تتمثل أهم تداعيات التغلغل الاقتصادي لإيران في دول المنطقة فيما يلي:
1- تأجيج الانقسامات المذهبية: ارتبط تدفق الاستثمارات الإيرانية على سوريا والعراق بسعي إيران لتقوية الهيمنة الشيعية على سدة الحكم. بينما ارتبطت التدفقات المالية الإيرانية على لبنان بمحاولة إيران تعزيز هيمنة “حزب الله” على الجنوب اللبناني وتقويته في مواجهة ضغوط الفرقاء السياسيين في لبنان. كما رصدت بعض المصادر دورًا لإيران في تأجيج النزعات الانفصالية في جنوب اليمن عبر استضافة رئيس جنوب اليمن السابق قبل الوحدة علي سالم البيض في الضاحية الجنوبية ببيروت التي يسيطر عليها “حزب الله”، وتوظيفه لإفشال الحوار الوطني اليمني من خلال الادعاء بعدم تمثيل كافة القوى السياسية الجنوبية في الحوار، وضرورة الاستفتاء على تقرير مصير جنوب اليمن.
2- تزايد الاختراقات الثقافية: لا تُعد الاستثمارات الإيرانية في المنطقة العربية سوى أحد المداخل التي تعتمد عليها طهران في التغلغل في المجتمعات العربية ونشر المذهب الشيعي، وهو ما كشفت عنه اتجاهات التشيع في الدول العربية التي تقاربت مع طهران في الآونة الأخيرة. ففي السودان أغلقت السلطات الأمنية السودانية المركز الثقافي الإيراني وفروعه في السودان، في مطلع سبتمبر 2014، وطالبت الملحق الثقافي الإيراني وطاقم المركز بمغادرة السودان خلال 48 ساعة بسبب انتشار عمليات التشيع في السودان التي استقطبت حوالي 12 ألف مواطن سوداني، بالتوازي مع انتشار 15 حسينية في مختلف أرجاء السودان، والأمر ذاته ينطبق على الجزائر التي انتشر التشيع فيها بين ما لا يقل عن 75 ألفًا من مواطنيها، بالتوازي مع حكم القضاء الجزائري، في فبراير 2014، بالسجن على مواطن مغربي تم اتهامه بتشكيل خلية لنشر المذهب الشيعي في الجزائر ودول الجوار، فضلا عن الاحتجاجات التي عمت محافظة وهران، في نوفمبر 2013، بسبب نشاط أحد المساجد في نشر المذهب الشيعي، كما وُجِّهت اتهامات للسفارة الإيرانية في الجزائر بسبب توزيعها كتبًا تدعو للتشيّع صادرتها السلطات الأمنية الجزائرية عام 2012.
3- الهيمنة الجيوستراتيجية: تسعى إيران لتطويق المنطقة العربية عبر الهيمنة على بعض المواقع الجيوستراتيجية بالإفادة من المداخل الاقتصادية واعتبارات الاستثمار، ويفسر ذلك تصاعد نشاط السفير الإيراني في اليمن في مدينة عدن، وسعيه لفتح مجالات للاستثمار الإيراني في المواني اليمنية عقب هيمنة الحوثيين العسكرية على العاصمة؛ حيث تسعى إيران للهيمنة الكاملة على خليج عدن ومضيق باب المندب للتحكم في حركة الملاحة عبر البحر الأحمر، خاصة عقب إخفاق مساعيها لتأسيس قاعدة بحرية في ميناء بورتسودان السوداني مع توتر العلاقات بين الدولتين، وهو ما ينطبق أيضًا على محاولات اختراق القارة الإفريقية، والاستثمار في ليبيا ودول إفريقيا جنوب الصحراء رغم حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني في بعض تلك الدول، وهو ما يمكن تفسيره بغايات تمديد شبكة التحالفات الإيرانية حولها.
4- تهريب المعدات التسليحية: تُوظف إيران مراكز الاستثمار التابعة لها في الدول العربية، وتدفقات التجارة، في عمليات تهريب الأسلحة عبر الحدود للميليشيات المتحالفة معها؛ حيث تصدت السلطات الأمنية اليمنية، في فبراير 2013، لسفينة تجارية إيرانية محملة بصواريخ أرض جو وقذائف ومتفجرات كانت في طريقها لمرفأ “المخا” اليمني على البحر الأحمر، تمهيدًا لوصولها للحوثيين، وفي يناير من العام ذاته ضبطت الأجهزةُ الأمنية اليمنية شحنة أسلحة في حاوية قادمة من تركيا تضم الآلاف من قطع الأسلحة الآلية والذخائر، أما الحادثُ الأهم فتمثّل في ضبط البحرية الأمريكية بالتعاون مع خفر السواحل اليمني السفينة الإيرانية “جيهان 1” في المياه الإقليمية لليمن، في يناير 2011، وعلى متنها شحنة أسلحة تحتوي على 40 طنًّا من المتفجرات والقذائف شديدة الخطورة، منها صواريخ “كاتيوشا إم 122″، بالإضافة إلى صواريخ أرض جو “ستريلا 1 و2” المضادة للطائرات، ومواد مستخدمة لصناعة القنابل ومناظير ليلية إيرانية الصنع.
والأمر ذاته ينطبق على السودان، ففي مارس 2014، ضبطت البحرية الإسرائيلية سفينة إيرانية محملة بالأسلحة في البحر الأحمر على الحدود بين السودان وإريتريا انطلقت من السودان، وكان سيتم تهريبها لحركة “حماس”، وتضمنت الشحنة صواريخ من طراز “M302″، كما قامت إسرائيل بقصف جوي لمواقع في السودان لإنتاج وتهريب الأسلحة الإيرانية في محيط العاصمة الخرطوم في مايو 2011 وأكتوبر 2012.
وإجمالا، يُثير توظيف إيران للأدوات الاقتصادية في التغلغل الإقليمي إشكاليات متعددة نظرًا لما تنطوي عليه تلك الاستثمارات من مخاطر وتهديدات، يتمثل أهمها في عدم الاستقرار السياسي والأمني، والتصدع المجتمعي، والاختراق الثقافي، ودعم النزعات الانفصالية، فضلا عن احتمالات تورط الدولة المضيفة بصورة غير متعمدة في عمليات تهريب السلاح العابرة للحدود، وتدريب الميليشيات المسلحة، مما يهدد بالانخراط في صراعات إقليمية ودولية خارج نطاق منظومة مصالحها الحيوية.
المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية