كان التصويت في استفتاء بشأن دعم تغيير 18 مادة أساسية في الدستور التركي، لها علاقة بشكل الادارة والقرار داخل السلطات الرئيسية الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، لكن هدف التغيير الأساسي هو منح رئيس الدولة صلاحيات تنفيذية وإجرائية أوسع في إدارة شؤون البلاد. وكانت النتيجة قبول هذه التعديلات، وتقول الديمقراطية إن “النصف + 1” كاف، على الرغم من خيبة الأمل، وانقسام الشارع التركي نصفين، بين مؤيد ومعارض بفارق نقطة ونصف فقط لصالح التغيير، على غير ما كان حزب العدالة والتنمية يمنّي النفس به في الوصول إلى ما يريد.
ميزة الاستفتاء الأولى والأهم كانت عامل الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ودوره وموقعه، في التخطيط والتوجيه ومركز الإدارة والإشراف على الحملات والمهرجانات وشعاراتها. صوّت 70% من مؤيّدي حزب العدالة والتنمية بنعم، ليس من أجل التغييرات الدستورية، بل من أجل إطلاق يد الرئيس التركي، ومنحه ما يريد، كما أفادت استطلاعات رأي كثيرة. كيف ستقرأ قيادات “العدالة والتنمية” هذا التوصيف، وكيف ستتعامل معه، على ضوء النتائج المعلنة؟
صحيح أن في مقدور حزب العدالة والتنمية أن يبدأ عملية التغيير الدستوري، اعتبارا من صباح يوم أمس الاثنين، لكن الصحيح أيضا أن ما قالته الصناديق لا يمكن تفسيره فقط أنه منح الحزب الحاكم كل ما يريده من دعم وتأييد مطلقين.
تعاني تركيا من وجود معارضة مشتتة مفكّكة إلى حد أنها عاجزة عن الحلم بالوصول إلى السلطة، لكن الصحيح أيضا أن رسالة الناخب التركي واضحة كالشمس في رابعة النهار، وهي المهادنة والتفاهم، وأن الحل الوسط هو المطلوب.
قال المواطن التركي أكثر من شيء ليلة الأحد، لكن أهم ما قاله هو أن تفاهم “العدالة والتنمية” والحركة القومية الذي يملك أكثر من 60% من الثقل الحزبي والسياسي لم ينجح في الوصول إلى ما يريد، وأن رسالة التعديلات الدستورية لا بد أن تأخذ بالاعتبار ما يقوله الجناح المعارض، حتى لا تدخل البلاد في دوامةٍ من الأزمات والتشنج، تقود نحو انتخابات مبكّرة.
كان الرئيس أردوغان يردّد، قبل أيام، أن عرقلة قرار الإرادة الوطنية واحتكارها في قطعِ الطريق على ممارسة المواطن التركي حقّ إعطاء قراره بشأن تعديل الدستور، ودخوله حيّز التنفيذ، لن تنجح، لأن المواطن يَعرف من الذي يخدم تركيا، ومن الذي يحاول منعَ انطلاقها في الداخل والخارج. وها هو المواطن التركي أعطى أردوغان ما يريد، لكن المعارضة للتعديلات كان لها رأيها القوي والمؤثر في رسم المشهد السياسي، وهو ما لا يمكن إهماله أيضا.
لم يتحقق سيناريو فشل التعديل الدستوري في الحصول على 50% من أصوات الناخبين، وهو قد لا يكون وضع البلاد أمام أزمةٍ دستورية وانسداد سياسي، لكن الحزب الحاكم مطالب الآن بلغة جديدة وأسلوب مغاير لما كان يقوله قبل أيام عن وقوف غالبية المواطنين الأتراك وراء مشروع التعديلات، لناحية الإقرار بوجود شريحة واسعة من المعارضة تقول شيئا آخر، وعدم الرهان فقط على تفكّك هذه المعارضة، واستحالة وصولها إلى السلطة في تركيا التي لا تحتاج فقط إلى تعديلات دستورية، بل تحتاج إلى دستور جديد عصري، يأخذ بالاعتبار علاقتها بالاتحاد الأوروبي، إذا ما كانت مصرّة على المضي وراء العضوية هناك، وينهي إرث الانقلاب العسكري الذي أقر الدستور الحالي. ولا يمكن أن تكون الانطلاقة السياسية المقبلة، بعد الآن، وعلى ضوء ما قالته الصناديق مساء 16 إبريل/ نيسان، على حساب تجاهل شرائح المجتمع التركي، على ضوء الخارطة السياسية والحزبية والعرقية التي شاهدناها جميعا على الشاشات، حيث تقدمت الأصوات المعارضة الرافضة التعديلات الدستورية المطروحة في المدن الكبرى، مثل اسطنبول وأنقرة وأزمير وأضنه، وحيث قال ناخب حزب الشعوب الديمقراطية الكردي في جنوب شرق البلاد إنه لن يتخلى عن قياداته ومواقفه بمثل هذه السهولة.
ما جرى ليس فقط تخلي أنصار الحركة القومية اليمينية المتشدّدة عن رئيسهم، دولت بهشلي، وتركه وحيدا أمام التزاماته ووعوده للرئيس أردوغان، بل كان انصراف نسبةٍ لا بأس بها من مؤيدي “العدالة والتنمية” عنه، وانتقالهم إلى الصف الآخر.
لا مشكلة في قبول التعديلات الدستورية بالمقياس الديمقراطي، ولا غبار عليها، على الرغم من صعود أصوات في الداخل والخارج تتحدّث عن ضرورة إعادة عملية فرز الأصوات وعدّها، لكن السؤال الأهم الآن هو هل المضي وراء تنفيذ خطط التعديلات الدستورية سيخفف الضغوط الداخلية والخارجية على تركيا وقياداتها السياسية، ويفتح الطريق أمام تحسّن العلاقات التركية الغربية، والتركية الأوروبية تحديدا، أم لا؟
قد يكون المقترع التركي صوت لصالح ما يريده حزب العدالة والتنمية، وخيار تركيا القوية المتماسكة، في وجه مخططات استهدافها وإضعافها من الداخل والخارج، كما قال أردوغان مراتٍ، لكن الرئيس التركي، والواقفين إلى جانبه اليوم، هم الذين سيتحملون مسؤولية الجمع بين
تحصين الديمقراطية التي يقولون إن تركيا تنعم بها وحماية علاقات تركيا مع الخارج الذي بدأ منذ مساء 16 إبريل يدعو إلى فتح صفحة جديدة من التعاطي مع الآخر في تركيا.
كنا نتمنى أن يكون الفارق في النتيجة واسعا بين نعم ولا، لحماية المسار السياسي والدستوري في تركيا، لكنها ديمقراطية الصناديق التي قالت نعم خجولة تحذيرية منفتحة على كل شرائح المجتمع، وضرورة احترام رأيه في هذا الخصوص. من يخطئ في تحليل النتائج والبناء على أساس أنه المنتصر الوحيد هو الذي سيتحمل المسؤولية، ويدفع ثمن خياراته ومواقفه التي لا تأخذ بالاعتبار الصعود التركي الإقليمي والموقع والدور التركي المستهدف اليوم.
ركّز “العدالة والتنمية” في حملاته الدعائية على أن خطط استهداف تركيا في الداخل والخارج مستمرة، وأن التجديد الديمقراطي هو للرد على أنظمة الوصاية، لكن خيار الصناديق قال شيئا آخر أيضا. هناك نسبة 9% من المتردّدين والمتكتمين على مواقفهم هي التي حسمت النتيجة. 51.5% من الأصوات لصالح التعديلات في الدستور، في مقابل نسبة 48.5% في الطرف المعارض. البحث عن هذه الشريحة مهم جدا بالنسبة للأحزاب السياسية، لكن ما قالته أهم من ذلك بكثير.
لا يمكن تأويل قرار المواطن التركي أو تفسيره في إطار حسابات سياسية وحزبية ضيقة. المسألة أبعد من تحقيق طموحات شخصية فردية، فتركيا، وكما ردّدنا دائما، أكبر بكثير من أن لا تعرف أين مصلحتها، وضرورة تجنب ارتكاب أخطاء مكلفة، وسط هذه الحالة الاستثنائية التي تشهدها البلاد اليوم.