أثار صعود التيارات القومية اليمينية الرافضة للعولمة وسياسات الارتداد للداخل في الدول الغربية وتوجهات تقييد حرية التجارة والاستثمار، جدلا متصاعدا حول مدى قدرة الدول الآسيوية الكبرى على الحفاظ على صعودها العالمي؛ إذ باتت اقتصاديات هذه الدول تواجه تباطؤا في معدلات النمو بالتوازي مع تهديدات للاستقرار السياسي والأمني، وصعود في ممارسات الفساد، وسوء تخصيص الموارد.
وعلى نقيض الاتجاهات السائدة في الأدبيات حول الصعود الآسيوي، وانتقال مركز القوة العالمية نحو آسيا بقيادة الصين الصاعدة التي تملك ثاني أكبر اقتصاد على مستوى العالم من حيث حجم الناتج المحلي الإجمالي؛ يقدم مايكل أوسلن رؤية مختلفة في كتابه المعنون “نهاية القرن الآسيوي: الحرب، الركود، ومخاطر أشد منطقة ديناميكية في العالم”، الصادر مطلع هذا العام؛ حيث يرى أن القرن الآسيوي يُشارف على الانتهاء، وأن الصين لا تعدو أن تكون “قوة عظمى هشة”.
وينقل مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة عن مايكل أوسلن، الباحث المقيم بمعهد المشروع الأميركي لأبحاث السياسة العامة، أن التوقعات حول مستقبل الصعود الآسيوي غير مقنعة؛ إذ تركز كافة هذه التوقعات على النمو الاقتصادي والاستثمارات الضخمة في البنية التحية، وتغفل عوامل عدم الاستقرار في القارة الآسيوية، مثل: انتشار الفقر، والتهميش الاجتماعي، والفساد السياسي، وتباطؤ معدلات التحديث في المناطق الطرفية البعيدة عن المدن، بالإضافة إلى التهديدات الأمنية، مثل: امتلاك كوريا الشمالية أسلحة دمار شامل وتهديدها دول الجوار، وسعي الصين للهيمنة على بحر الصين الجنوبي.
انحسار التضامن الإقليمي
يؤكد أن القارة الآسيوية باتت مجالا لتهديدات خطيرة متعددة غير مرئية نتيجة التركيز على المظاهر التنموية والتفاعلات السلمية التي تبدو على السطح، وتتمثل أهم هذه التهديدات التي ستؤثر على مستقبل القارة الآسيوية والعالم في ما يلي:
* انهيار المعجزة الاقتصادية: على الرغم من إقرار الكُتَّاب بأهمية النمو الاقتصادي السريع الذي حققته الدول الآسيوية، وخاصة الصين؛ إلا أن هذا النمو الاقتصادي يفتقد التوازن في توزيع عوائد النمو، بالإضافة إلى التفاوت الاقتصادي بين الدول الآسيوية ذاتها، وعدم قابلية النمو للاستدامة بسبب اعتماده على التصدير وحرية التجارة العالمية، بالإضافة إلى بدء مطالبة العمالة في الدول الآسيوية برفع الأجور، وهو ما سيزيد من تكلفة الإنتاج ويقلل من تنافسية المنتجات.
لا يزال يسيطر على اقتصاد عملاق -مثل الاقتصاد الصيني- النمط السوفييتي لاحتكارات الدولة
* انتشار شبكات الفساد: يمثل الفساد تحديا رئيسيا لاستمرار النمو الاقتصادي في ظل استشراء علاقات المنفعة المصلحية بين السياسيين ورجال الأعمال؛ حيث كشفت التحقيقات في كوريا الجنوبية عن شبكات الفساد الاقتصادي بين الشركات الصناعية والتجارية الكبرى والقيادات السياسية للدولة، وينطبق الأمر نفسه على الصين التي شهدت حملات مكثفة لمكافحة الفساد والتحالف بين بعض قيادات الحزب الشيوعي ورجال الأعمال لتبادل المنافع والإثراء على حساب المصلحة العامة.
* الاحتكارات الاقتصادية: لا يزال يسيطر على اقتصاد عملاق -مثل الاقتصاد الصيني- النمط السوفييتي لاحتكارات الدولة؛ حيث لا تزال تهيمن على اقتصادها الشركات المَدِينَة غير الفعالة المملوكة للدولة، وهو ما قد يدفع الاقتصاد الصيني نحو الهبوط الحاد. ولأن الاقتصاديات الآسيوية مترابطة على نحو متزايد، فإن تداعيات التراجع الصيني ستمتد عبر القارة الآسيوية بأكملها، وستصيب الاقتصاد العالمي. فعلى سبيل المثال، شهدت الأسواق المالية العالمية تراجعا ملحوظا عندما انهارت أسواق الأوراق المالية والسندات في الصين العام الماضي.
* مخاطر الاختلال الديموغرافي: ركز الكتاب على مخاطر “معضلة التناقض الديموغرافي”، أي أن يشهد أحد البلدان الآسيوية كثافة سكانية متزايدة، أو تقلصا سكانيا متزايدا، فبالنسبة إلى دول مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان واليابان، فإن شيخوخة السكان تُنذر بتقلص عدد سكانها، ومن ثم وضع أعباء الضمان الاجتماعي على عدد متراجع من القوى العاملة.
وبالنسبة إلى السكان في الهند وإندونيسيا، فإن ارتفاع عدد السكان من الشباب في سن العمل يجعل تحقيق مستوى التشغيل الكامل لهم أمرا مستحيلا، مما يزيد من التحديات المستقبلية أمام ما حققته تلك الدول من إصلاح اقتصادي. كذلك تؤثر تكاليف التحديث السريع التي شهدتها آسيا، وأهمها حجم الدمار البيئي، سلبا على التركيبة السكانية بقدر ما تفعل معدلات الخصوبة.
* بوادر الثورات السياسية: تواجه الدول الديمقراطية الراسخة في القارة الآسيوية (مثل اليابان والهند) تصاعدا في أزمات الثقة بين السلطة السياسية والمواطنين، بالإضافة إلى انتشار الفساد، وسوء تخصيص الموارد، مما يزيد من عدم رضاء المواطنين عن السلطة.
ويرى أوسلن أن من المرجح أن تشكل الصين أكبر خطر للاضطرابات السياسية في المنطقة؛ حيث ترتفع معدلات التقلبات والاضطرابات السياسية، فهناك 180.000 مظاهرة ضد النظام في كل عام، وهو ما يدل على تقلص شرعية القيادة السياسية والحزب الشيوعي الحاكم وفق رؤيته.
وشهدت دول أخرى مثل: كوريا الجنوبية، وإندونيسيا ارتفاع مستويات الفساد والفضائح السياسية، والتي كان آخرها الاحتجاجات التي اجتاحت كوريا الجنوبية لاتهام رئيسة البلاد بتورطها والدوائر المحيطة بها بالفساد السياسي.
يرصد الكتاب وجود حالة من الضعف والتفكك في المؤسسات الإقليمية في القارة الآسيوية التي لم تعد قادرة على تنسيق السياسات بين هذه الدول، وفرض الالتزامات على بعض الدول الآسيوية التي تهدد الأمن والاستقرار في القارة، مثل كوريا الشمالية، وهو ما زاد من وتيرة التدخلات الخارجية في شؤون القارة، بالتوازي مع الانتشار العسكري الأميركي المتزايد في المحيط الهادي وبحر الصين الجنوبي، واختراق المجال الحيوي لكافة الدول الآسيوية الكبرى.
وعلى مستوى الأمن الإقليمي، يرى أوسلن أن القارة الآسيوية تقع أسيرة لحلقة مفرغة من عدم اليقين، وانعدام الأمن، وعدم الاستقرار، مما يُنذر بتفجر صراعات إقليمية ممتدة في مناطق، مثل: بحر الصين الجنوبي، وعلى الحدود الهندية-الباكستانية، والحدود بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية. وأثار صعود الحزب الديمقراطي التقدمي في تايوان وانتخاب تساي إنج ون التوتر مرة أخرى في مضيق تايوان، حيث تبنى القائد الجديد توجهات قومية متشددة يمكن أن تثير التوترات مع الصين حول مسألة استعادة تايوان إلى إقليمها مرة أخرى. وتوقع الكاتب اشتداد التوترات بين البلدين أكثر مما كان عليه الوضع عام 1949. كما تنبأ أوسلن بأن حروب المياه في المنطقة ستقود إلى مواجهات عسكرية.
استراتيجية احتواء التهديدات
ركز الكاتب على طرح مجموعة من التوصيات لصانع القرار الأميركي للتعامل مع التهديدات النابعة من التراجع الآسيوي المتوقع؛ حيث ركز على ضرورة اتباع الولايات المتحدة الأميركية استراتيجية تقوم على الدمج ما بين الاحتواء للتهديدات المتزايدة وتعزيز التحالفات الأميركية في القارة الآسيوية لمواجهة هذه التهديدات. وتمثلت أهم التوصيات التي طرحها الكاتب للإدارة الأميركية في ما يلي:
* نشر المزيد من القوات البحرية الأميركية في المحيط الهادئ وتعزيز التعاون الدفاعي مع اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا والهند لمعالجة القضايا الأمنية الهامة، ومحاولة وضع معايير وقواعد إقليمية.
* تعزيز التجارة والاستثمار بشكل أوسع بين الولايات المتحدة الأميركية والدول الآسيوية، خصوصا الصين، لبناء الثقة بين الطرفين.
* تشجيع قيم الليبرالية في آسيا؛ حيث يرى أوسلن أن المدخل الأساسي للتأثير في الدول الآسيوية يجب أن يكون دعم منظمات المجتمع المدني لتعزيز التيارات الليبرالية في المجتمعات الآسيوية، وهو ما يمكن اعتباره إحدى آليات الاختراق الناعم.
وادعى أوسلن أن الولايات المتحدة الأميركية لا تستطيع أن تشكل نظاما دوليًا ذا قواعد ليبرالية وحرة من دون نشر الليبرالية في الدول الآسيوية الكبرى.
ووفقا للكاتب “ترتبط رعاية الديمقراطية داخل بلد ما ارتباطا وثيقا بتشكيل مجتمع الدول الليبرالية، ومن النادر للديمقراطية أن تزدهر في حديقة عقيمة”.
ويركز الكاتب على تعزيز المصالح الأميركية في مواجهة دول القارة الآسيوية، وهو ما تجلى في تركيزه على اختراق المجتمعات ونشر القيم الليبرالية في الدول الآسيوية وخاصة الصين، بالإضافة إلى تعزيز العلاقات مع حلفاء الولايات المتحدة لمواجهة بعض الدول التي تتبنى سياسات مستقلة عن النهج الأميركي مثل روسيا والصين.